أود قبل تقديم قراءة لكتاب " تهويد التاريخ " أو " البشرية نفقد الذاكرة " - كما ورد على غلاف الكتاب - أن يتصدر المقال سيرة ذاتية موجزة لكاتبه " إيمانويل فيلكوفسكي " الذي ولد في مدينة تسبك الروسية عام 1895 ، وغادر منزل الأسرة في سن الثالثة عشرة من عمره ، وذهب مترجلاً على أقدامه إلى مركزٍ من مراكز تدريس التلمود في روسيا ، ودرس اللغة الروسية والرياضيات ، ثم إلى فرنسا للحصول على دورة تعليمية في الطب من جامعة مونبلييه وعدة دراسات في الطب النفسي من جامعة إدنبرج ، وعاد إلى روسيا قبل نشوب الحرب العالمية الأولى ، والتحق بكلية الطب وتخرج منها عام 1921 ، وبعدها مارس مهنة الطب لفترة لم تدم طويلا في برلين حيث انتقل إلى فلسطين عام1924 ، وقام بشراء قطعة أرض في النقب أنشأ عليها مستعمرة تعاونية موجودة إلى اليوم من أكبر المؤسسات الزراعية في شمال صحراء النقب ، وظل مقيماً بها إلى عام 1939 ، وخلال هذه الفترة قام بممارسة عمله الأساسي كطبيب نفسي ، وبجانب ذلك نشر بعض كتاباته في مجلة " أماجو " التي كان يحررها " سيجموند فرويد " ، وعندما لاقت قراءته لدراسة فرويد " موسى والتوحيد " جدلا كبيرا وآراءاً متباينة شكل هذا تحولا جزرياً في حياته ، فألقى بالطب النفسي جانباً ، وتفرغ لدراساتٍ جديدة عليه وهي البحث في التاريخ القديم وخاصة الفرعوني ، محاولا تشويهه ، ونسب كل إنجازاته الحضارية لليهود ، ومالم يستطع تلفيقه بدأ في هدمه من خلال كتاب عنوانه " أُديب و إخناتون " ، وكانت فكرة الكتاب الرئيسة هي ربط الأُسطورة اليونانية لأُوديب بتاريخ إخناتون أول الموحدين ، حيث استند لرأي للطبيب النفسي " كارل إبراهام " الذي كان يقول بأن الاتجاه الديني لدى إخناتون لم يكن إصلاحيا ، ولكن يرجع إلى عقدة نفسية وهي عقدة أُوديب الشهيرة ، حيث عانى من شعورٍ عدائي تجاه أبيه يقابله ارتباط وحب شديد لأمه ، وإصلاحه الديني والاجتماعي ما هو إلا إنفجار لشعور مرضي مكبوت ، وعليه بنى " فيلكوفسكي " نظرية أكثر فداحة .
http://www.youtube.com/watch?v=MwMK2c1RfZI
فقال أن " إبراهام " لم يدرك أن إخناتون هو أُديب نفسه ، ولم يشتهي أمه كما يفعل باقي المرضى النفسيين ، بل زنى بها بالفعل ، وقتل أباه لهذا السبب ، فثار عليه كهنة آمون واستنكروا فعلته ، فأعلن هو عليهم الثورة وعلى ديانة آمون ، وهنا قد حول إخناتون من أول الموحدين إلى آثم خسيس زنى بأمه وقتل أباه ، وأنهى كتابه عام 1940 وهو مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية ، ولكنه لم ينشره حتى عام 1960 ، بعد أن قام بنشر كتبه التي تلته التي تمثل مشروعه ( عصور في فوضى ) وهي : " من الخروج إلى الملك إخناتون " ، " عوالم في تصادم " ، " الأرض في إضطراب " ، وبعدها نشر الكتاب سالف الذكر " أوديب وإخناتون " ، وتلا ذلك كتابين في تاريخ العالم القديم هما " شعوب البحر " و " رمسيس الثاني وعصره " ، ونرى من الموضوعات التي أولاها اهتمامه ، كأنه يريد ترتيب أوراق التاريخ من وجهة نظره فحسب ، كحائك يريد تكييف سروال كغطاء رأس .
http://www.youtube.com/watch?v=jz-V6hUXEWk
وكما أسلفت سابقاً أن الكتاب حالة خاصة وصعبة ما بين النص والترجمة ، لأن مشروع " فيلكوفسكي " لإعادة ترتيب الأحداث التاريخية كان قائماً على بناء تاريخ يهودي ظل مبهما غير واضح الملامح حتى القرن التاسع قبل الميلاد ، وهدم ما قبله من وجهات نظر مدعمة بآراء علماء التاريخ ، ومؤكدة بثوابت موجودة فعلا على الأرض من آلاف السنين ، و لكي يصعب من عملية تفنيد آرائه ألبس مشروعه ثوباً علمياً جيولوجي متكيء على مسلمات هو وحده الذي افترضها ، وبراهن عليها بما يتفق ووجهة نظره ، ومن هنا تأتي صعوبة التحرير والترجمة و تقديم مجموعة كتب " فيلكوفسكي " بمنتهى الأمانة العلمية ، ثم الرد عليها وتفنيدها بشكل علمي متخصص غير ذي ميل وهوى ، وقد أخذ الكاتب والناقد " رضا الطويل " على عاتقه مهمتين ، الأولى وهي التحرير ، والثانية هي الإنفاق المادي ، بتدعيم مجموعة كبيرة من الباحثين والمترجمين على مدى عشرين عاماً ، ليتم إخراج مجموعة " تهويد التاريخ " في خمسة مجلدات يحمل كل منها على حدة العنوان الأصلى للكاتب ، ومن داخله الرد على ما هو موجود فيه من آراء .
http://www.youtube.com/watch?v=0Zt2CsY3lZs&feature=related
مُسًّلـمة بنى عليها الكاتب نظريته في كتاب " عوالم في تصادم " ، مُذنّب يتحرك بشكل افتراضي في منظومة كوكب المشترى ، يصطدم بالأرض والمريخ معاً ، ويضطرب المسار الكوني لكوكب الأرض ، فتنعكس حركة دورانها ، مخلفة من ورائها شمساً تغرب في الشرق وتشرق من الغرب ، ويتغير ترتيب الفصول والجهات الأصلية ، وهنا تحديداً على حد قوله حدث التيه ، وانشق البحر الأحمر لينتهز موسى والإسرائيليون الفرصة عابرين البحر هربا من الفرعون ، وهنا توقفت الأرض عن الدوران بأمر يشوع بن نون ، حين قال أمام عيون إسرائيل : ( يا شمس دومي على جبعون ويا قمر على وادي ايللون ، فدامت الشمس ، ووقف القمر ) ، رغم أن كثير من العلماء أرجعوا هذه الظاهرة إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد ، و ليس التاريخ الذي عينه فليكوفسكي .
تستمر نظرية التهويد متمسكة باتجاهها الذي بدأته في جانب التاريخ الطبيعي ، منتقلة إلى التاريخ السياسي ، فكما ربطت بين الكارثة الطبيعية والخروج ، والبلايا العشر الواردة في سفر الخروج من التوراة ، فسرها " فيلكوفسكي " متجاهلا الجانب الروحاني في الكتاب السماوي وأخذها بشكل فيزيقي بحت للأحداث التي صاحبت الكارثة ، مجرداً النص الديني من جوهره الميتافيزيقي ، وفي المقابل ترد بردية إيبور من داخل نصوص التاريخ المصري ، التي تصف بدورها الكارثة ، فيأولّها هي الأخرى بطريقته على أنها تتحدث عن كارثة سياسية اجتماعية وليست طبيعية ، ومن الملفت للنظر أنه لم يترك لحظة في التاريخ إلا وأوّلها تأويل صادم جديد ، و كأن علماء التاريخ المصري درسوا برديات أخرى وتوراة أخرى .
ومع توالى الكتب في المجموعة نرى ترتيبا آخر للأحداث التاريخية الهامة ، وتعريفات جديدة للشخصيات ، وهدم و إعادة بناء على أطلال ما قوضه من منجزات تلك الشخصيات ، إخناتون يعاني من عقدة أوديب ، الهكسوس هم العماليق الذين أتو من مكة ، و الذي تصدى لهم هو ملك اليهود شاؤول ، وليس أحمس مؤسس الأسرة الثامنة عشرة ، حتشبسوت هي ملكة سبأ المبهورة بالتقدم الفني والعمراني لمملكة أورشليم ، وتحتمس نهب كنوز الثقافة والفن الإسرائيلي ونسبها إلى نفسه ، أعتقد الآن أن الهدف أصبح جلياً لكل من له عيون ترى ، وعقل يفكر ، هل من المنطقي أن تتجاهل البشرية في كل وثائقها التاريخية كارثة كونية ضخمة كالتي يصفها ..؟ ، ولكنه يرد عل ذلك بإجابة تبعد عن المنطق كل البعد : ( يلجأ الفرد إلى ميكانيزمات مختلفة كي يبقي المادة الصادمة في ظلام الكبت ، تفعل الإنسانية جمعاء ) ، أى إجابة هذه ؟ ، ولكن الإجابة عندي منقولة من مقدمة " رضا الطويل " ، إن " فبلوفسكي " كرس حياته كلها لتهويد التاريخ ، وليس أدل على أنه لم يتوقف عن ذلك حتى بعد موته ، فهناك مجلة صدرت باسمه تستكمل مشواره الفكري تصدر بصفة منتظمة ربع سنوية تحت اسم " الفيلكوفسكية " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق