عـقـص شعره وهذب لحيته بأصابعه وعلق مخلاته على سيخ من حديد حمله على كتفه، وكان قد ملأ المـخلاة بأشيائه التى نوى بيعها لأول من سيصاد ف فى الطريق، مشى محازيا الشاطئ المتعرج متحاشيا التقاء خط ســيره بحواف المياه، مداعـبا الرمال بخطواته ذات الإيـقـاع المـنتظم، لكن الموج لم يكن الشريك الشريف إذ طغى عـلى آثار أقدامه السالفة، نـظـر كـثيرا للخـلف إلى كوخه الذى حاولت كثبان الرمال جهـدها إخفاءه.. ظل فى طريقه اللامنتهى حيث امتد الشاطئ بلا تعرجات وأبى الموج ألا يطمس آثار أقدامه إلا دفعة واحدة مستعيناً بالمد فى ليلة قمرية قضاها فى العراء دون جرعة ماء عزبة، مستقرا هـو أمام أكواخ الغرباء التى نبتت فى بقعة خضراء غريبة عن المكان، وفى الصباح سرد أشياءه على سماط قديم، لكن الأكواخ لم تأبه لما لديه لمدة يوم وليلة، بدت منهكة لجسدة لـتسلمه للنوم وللشاطئ معا، صندوق خشبى اصطدم برأسه عدة مرات ليوقظه، دون جدوى إلا فى المرة السابعة، الصندوق عظيم الطلة يترنح فوق بقايا الموج فى ليل حالك، يقبع فوقه تمثال مرمرى لأنثى اتخذت وضع الجنين تغط فى غيبوبة، فشد التمثال من زراعه فتأوه، احتضن مقدمة الصندوق وحبى به على الرمال ويداه تتحسسان النقوش التى وشمت عليه، فسقطت الفتاة متدحرجة لا تغطيها سوى قلنسوة من ماء البحر ترصعها ذرات الرمال، فجعل ينظرخائفا إلى البحرعله يرى الشاطئ الذى أتت منه أو السفينة التى لفظتها مع صندوقها الغريب، لكنه لم يجد سوى هضاب بلون الكحل ترتفع وتنخفض لتجن ما وراءها.
ولم ينتبه إلا والفتاة واقفة تجر الصندوق وتختفى ناحية الأكواخ، فلملم سماطه وما تبقى من شجاعة ولحق بها تدخل من باب لملجأ من خشب، وكأنها تعرف عُمّاره حق المعرفة، فتململ ثم تبعها إلى الداخل المظلم، ولم يكن هناك جاذب للضوء من الخارج إلا بياض بشرتها، أخرجت سراجا من الصندوق وفركت خاتمها بمعدنه ليلتقط الفتيل الشرر، وقربته من وجهه لتستأنس به فى غربة المكان ولما اطمأنت علقته على مصراع النافذة لينيرالداخل والخارج ففطن لمأربها واستدار خارجا من الباب وظل مستندا بظهره على الحائط الخارجى والنوم يدفع أكتافه للأسفل ويثنى ركبتيه وأخير استسلم واستمر فى الهبوط حتى توسطت لحيته ركبتيه لكن قميصه لم يستسلم مشتبكا مع الأشواك الناشزة من الجدار الخشبى فبدا أنها علقته على بابها وتركته للصباح.
ولما أفاق وجدها بدأت فى استخراج أحشاء الصندوق التى لم تكن بالكثير رداء من قماش على جسدها وقدر معدنى أسود له غطاء يشبه رأس مارد أفريقى عجوز، طفقت تسوى الأخشاب تحت القدر، وتبث هواء فمها لتوعذ للنيران بالاشتعال، ظل السائل الغريب يصدر قعقعة مخيفة فى غليانه، فرفعت شفتيها إلى المقبض.. الأذن للقدر وضغطت عليه بشبق فانفرج الغطاء عن مرآة فى جوفه تتجمع عليه سحب البخار، وأخرجت من صندوقها فرشاة من شعر وعظم بدأت تخط بها أبجدية جديدة على سطح المرآة، الحروف والعلامات لا حصر لها، أخذت تلقنه المنطوقات المستحيلة البوح، وعندما كان تعجزه اللغة كانت تفرضها بإبهاميها قصرا على شفتيه، وكلما انتهت من صفحة بخارية، أزالتها بطرف من ردائها، علمته تاريخ عام قادم لا يرتكن على عام من قبله، أما ما بعده فليس فى مرآتها شيئا له، ظل مشدوها الى أن تهِرب الضوء من النافذة، فحاول هو الآخر اتباعه من الباب، فاستلمسته للبقاء فى الداخل، ولاحقت الضوء الأخير للشمس بمصراعى النافذة حتى طردته، وأهدته مكافأة الدرس الأول عندما أغراها جسده البرىء، طلب أكثر فأعطته وأغدقت، ولما تهرب من خوفه نهرته وأجبرته على اعتلاء الخوف، فمسه من بعيد ثم تذوقه فلم يستطع الهرب، قبلها فأ صبحت مُقبّـلةٌ من الرأس للقدم، وهنا أهدته كل ما لديها من إمرأة، وجعلت تتغذى بجوع على كل ما لديه من رجل، فغابت الدنيا أمام عينيه، ولما أفاق أحس ببرودة تجتاح جسده فتكور واهتز فصدم القدر وتململ السائل فى داخله ليسيل على الأرضية الخشبية الجافة ويسرى فى تجاعيدها حتى وصل إلى مخلاته الملقاة على الأرض، فحاول التقاطها فى ترنح ولكن محتوياتها انفرطت دفعة واحدة، واندلق منها مسحوق أخضر اختلط بالسائل فإذا بالأرضية تخضبت بلون أحمر، سَرى فى شرايين تجرى على الأخشاب تشكل حياةً نابضة، فنظر بحزن شديد إليها وهى تلملم بكفيها المعجون وتضعه على شعرها الأسود الفاحم وتغير لون شعرها، والانتصار يدنو من قسمات وجهها وكأنها وجدت نبوءتها الضالة منذ قرون، أما هو فسقط كمدا على ضياع مسحوقه الذى اكتسب منه رزقه واسمه، وأسماء أسلافه من زمن، فتهدج صوته متمتما منشداً وهو يهتز يمينا ويسارا:
فصب قدره فى قدرها
و حال بمائه فى مائها
فارتاحت للذى باعها
فنام حـولا فى ريحـها
فظـل عمره بحـوزهــا
كانت قدماها كحمامتين ما تكادا تستقران حتى تحلقا فوق الفراش ولكن الملجأ قد استقـر لمدة عام، منذ وصولها.
تعلم خلاله كيف يحكى ما سيحدث فى العام الذى لا يتكئ على عام من قبله، ولكنه لم يتعلم الإيعاذ للنار بالاشتعال، فترك لها هذه المهمة مع مهمة استقبال الزائرين، اللذين طمحوا فى معرفة حكايا الأيام، ولما ازداد عددهم فطن
إلى أن الجميع يشتركون فى قصة واحدة، والاختلاف يرجع إلى الزاوية التى ينظرون منها إلى المرآة كان حريصا على توسيع رقعة المكان، حتى أصبح لهم نافذة قريبة من الشاطىء، يقفان قبالتها يراقبان الحركة فى السماء.. طيور بنية وزرقاء، نيران تسقط من سمائها إلى عرض البحر، سحب تغير لونها إلى الأرجوانى.. الكل مدون على سطح المرآة، فازداد يقينه بازدياد عدد النبوءات الصادقة عن الأخرى التى لم تطاوعه، وأصبح رأيه أكثر صلابة ونظراته تحمل عمقا لا مثيل له، كما زالت نحافته وطالت لحيته، وكثرت إشاراته وقل حديثه حتى انقطع، إلا غناءً، فصار يترجم النبوءات إشارةً، وفى النهاية ينشد أغنية بصوته الحالم تعبر عن حال الجميع.. فينصرف المستنبئون مشدوهين بعذوبة صوته غير مبالين بما تحمله إشاراته من خفايا الأيام.. ظل أعواما فى هيامه وغنائه معتزلا امرأته حتى زهدته، وأقلعت عن إشعال النار تحت القدر ولكنه ظل قادرا على فك رموز المرآة دون اللجوء إلى الأبخرة المصّاعدة عليها وابتكر طرقا جديدة للرؤيا بقراءة علامات على ظهور النساء، اللائى كن يهبن أنفسهن للرؤيا والمرتأى، لكن الجميع قد بهتوا لما شاهدوا فى الأفق ضوءً قويا شديد التقوس كسنام جمل يسقط فى البحر، ويلامس الماء ويندحى على سطحه ليرسم حجرا أبيض يطفو، ويعاود الضوء الكرة حتى شكل طريقا حجريا شق البحر ليقترب من اليابسة، ساعتها جال سؤال واحد بخاطره.. فى ماذا سيعتقد الجميع؟، بما أنه غير قادر على التنبؤ بشىء، فلم يستطع حتى التنبوء بحدوث جلل مثل هذا الطريق الذى رسخ فى البحر.. ماذا سيقول نساؤه وخاصة امرأته الأولى، التى ارتدت قلنسوتها واخترقت جو الملجأ فى تصميم متجهة إلى الشاطىء، فتتبعها متذللا، خوّضا معا فى البحر- متجهين الى الطريق الجديد- حتى وصل الماء إلى نحرها، فعقد كفيه خلف ظهره لتضع عليهما قدمها وعندما حاولت وضع الأخرى على كتفه بدأ فى النحيب فزلزل بكاؤه البحر وتخلل الهواء الخارج من فمه الماء صانعا فقاعات كبيرة انفجرت كقنابل دفعتها للسقوط فى الماء وهى تبكى، ولكنها عاودت الصعود على كتفه كى ترتقى بداية الطريق الحجرى.. وتراجع للخلف ليراها وهى تمشى على الطريق المنتهى بمركب كبير ذات أشرعة مخملية وصوارٍ من نور، وما إن صعدت حتى دار المركب فى البحر فصرخ مناديا إياها لكنها لم تنتبه، والريح يدفع الأشرعة وكأنما يحملها من الإبط.
إلى أن الجميع يشتركون فى قصة واحدة، والاختلاف يرجع إلى الزاوية التى ينظرون منها إلى المرآة كان حريصا على توسيع رقعة المكان، حتى أصبح لهم نافذة قريبة من الشاطىء، يقفان قبالتها يراقبان الحركة فى السماء.. طيور بنية وزرقاء، نيران تسقط من سمائها إلى عرض البحر، سحب تغير لونها إلى الأرجوانى.. الكل مدون على سطح المرآة، فازداد يقينه بازدياد عدد النبوءات الصادقة عن الأخرى التى لم تطاوعه، وأصبح رأيه أكثر صلابة ونظراته تحمل عمقا لا مثيل له، كما زالت نحافته وطالت لحيته، وكثرت إشاراته وقل حديثه حتى انقطع، إلا غناءً، فصار يترجم النبوءات إشارةً، وفى النهاية ينشد أغنية بصوته الحالم تعبر عن حال الجميع.. فينصرف المستنبئون مشدوهين بعذوبة صوته غير مبالين بما تحمله إشاراته من خفايا الأيام.. ظل أعواما فى هيامه وغنائه معتزلا امرأته حتى زهدته، وأقلعت عن إشعال النار تحت القدر ولكنه ظل قادرا على فك رموز المرآة دون اللجوء إلى الأبخرة المصّاعدة عليها وابتكر طرقا جديدة للرؤيا بقراءة علامات على ظهور النساء، اللائى كن يهبن أنفسهن للرؤيا والمرتأى، لكن الجميع قد بهتوا لما شاهدوا فى الأفق ضوءً قويا شديد التقوس كسنام جمل يسقط فى البحر، ويلامس الماء ويندحى على سطحه ليرسم حجرا أبيض يطفو، ويعاود الضوء الكرة حتى شكل طريقا حجريا شق البحر ليقترب من اليابسة، ساعتها جال سؤال واحد بخاطره.. فى ماذا سيعتقد الجميع؟، بما أنه غير قادر على التنبؤ بشىء، فلم يستطع حتى التنبوء بحدوث جلل مثل هذا الطريق الذى رسخ فى البحر.. ماذا سيقول نساؤه وخاصة امرأته الأولى، التى ارتدت قلنسوتها واخترقت جو الملجأ فى تصميم متجهة إلى الشاطىء، فتتبعها متذللا، خوّضا معا فى البحر- متجهين الى الطريق الجديد- حتى وصل الماء إلى نحرها، فعقد كفيه خلف ظهره لتضع عليهما قدمها وعندما حاولت وضع الأخرى على كتفه بدأ فى النحيب فزلزل بكاؤه البحر وتخلل الهواء الخارج من فمه الماء صانعا فقاعات كبيرة انفجرت كقنابل دفعتها للسقوط فى الماء وهى تبكى، ولكنها عاودت الصعود على كتفه كى ترتقى بداية الطريق الحجرى.. وتراجع للخلف ليراها وهى تمشى على الطريق المنتهى بمركب كبير ذات أشرعة مخملية وصوارٍ من نور، وما إن صعدت حتى دار المركب فى البحر فصرخ مناديا إياها لكنها لم تنتبه، والريح يدفع الأشرعة وكأنما يحملها من الإبط.
عندما أغلق عينيه وفتحهما وجد نفسه جالسا بين أحفاده فوق تبة تطل على صحراء شاسعة مجعدة السطح كوجهه من أثر السنين.. كانت تلك التبة زمنا شاطىء لبحر جف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق