الثلاثاء، 10 مايو 2011

ثلاثية البحر



(1)
غادر الهلال بداية الشهر منذ ساعات، وبدأ السقوط في البحر المحدود بنهاية السماء. كنا قد أبحرنا لوقت قصير في وجه الريح    ، الشراع ممزق والدفة بالكاد تتشبث بالمركب العجوز ، البحار صغير السن يظهر كل مهاراته في السيطرة عليها ، رغم أن الموج كان محايدا موضوعيا لحد كبير ، باب القمرة مهشم لكنه مغلق يتسرب منه ضوء خافت ينعكس علي الألواح التي غمرتها المياه ، تتصارع الأنفاس لتقطع الصمت ، تتخفي النظارات من وراء جفون موارَبة  لتستقر علي فراغ الزجاجات وأواني الحساء التي تهشم بعضها بفعل الضجر ، أقلع البحارة عن كل شيء ، حتى أن احدهم القي بغليونه في الماء ، لم تبق سيدة واحدة علي السطح ، ولم يجرؤ أشجع الرجال علي البحث في باطن السفينة  عن امرأته ، خوفا من فقدان الأمل أو خشية إلقاء الآنية المعدنية في وجهه ، ازدادت علامات الشهور والأيام علي عامود الصاري حتى أنها احتاجت حفنة من المترجمين لكثرة اللغات وأدوات الطعام التي كتبت بها ، عندما انتشلوا المركب بعد كذا وتسعين عام .
 
(2)
 
الناجون من غرق السفينة وقفوا متكاتفين على حافة القارب في انتظار قدوم الشاطيء ، النظرات ثابتة على خط التقاء السماء بالبحر ،عل شيء يغير من استقامته ، الوجوه تراصت متشابهة تفكر في النجاة ؛ العيون، الأنوف و الجباه تتفصد عرقا، شريط سينيمائى متكرر ، ساعات والموج يهدهد القارب كزوجة أبيه ، حتى كل الموج فبدأ يقذفه بعيدا ويعود ليقذفه بأقصى طاقة غضب داخلي ، وهم مصممون على  التكاتف بنفس الطريقة ،لم ينسل واحد عن المجموع .كأنهم في انتظار زميلهم الذي ذهب لتنفيذ ضربة الترجيح الأخيرة.يقاومون إلتواءات البحر والقارب ،بجلوس القرفصاء والوقوف معا . فجأة قطع. الخط المستقيم نقطة رمادية بعيدة تحرث المياه تجاههم ، وتغير الشريط السينيمائى إلى صور مستقلة ، وهم مازالوا يقاومون البحر معا، وظلت السفينة تتقدم نحوهم بنفس السرعة،وبحارتها متراصون يشاهدونهم في بهجة حتى أن القبطان أطلق نفيره  عدة مرات مما شجع بحارته على التصفيق والصفير بإيقاع منتظم  ظنا منهم أن أبناء القارب يرقصون الدبكة أو ما تشابه عليهم من الرقص الروسي .
 
(3)
 
النافذة تقابل البحر تماما لا يفصلها عنه إلا بناية عالية تشطر المنظر إلى نصفين. وكأن البحر وضع كفه على إحدى عينيه ، النوافذ المقابلة كثيرة تتخلل عُقَّل أصابع البناية ، وتحمل التأويلات والأقاويل معلقة بين الملابس على حبالها ، بزة عسكرية بالطبع جردت منها الرتب ، وراءها وجهين اختفى فكهما السفليين تحت حافة النافذة.  احدهم بشارب أبيض وعيون متسائلة والآخر لامرأة ذات تجاعيد لم تنحتها السنين ، ولكن نحتها تغيير فصول السلطة ، نافذة  تضاء على  حبال فارغة  وضجيج مشتعل وصوان فارغ ، وجميلة تقطع الغرفة ذهابً ما بين الشرفة والصوان . موزعة نظراتها على ما تبقى من ألوان الشارع المظلم ، باحثة  في أركانه عما  يهديء من شبقها  لمدة  ليلة . ردنجوت ، فراك ، حلة لويس السادس عشر أو السابع عشر، ورأس ودعه الشعر أعلى مؤخرة الكرسي يقابلون مرآة تعج بأدوات الماكياج والباروك ، ووجه  ذو  دموع على جوانبه  الخارجية من تأثير الجلسرين ، مائدة ذاب خضارها من كثرة تلامس أيادي العرق وأوراق اللعب من  ملوك  وآسات  وضربات حظ  وإفلاسات وإغداقات ، وحولها بقايا لأثاث محترق وأسمطة اختلطت ألوانها من إثر اندفاع وسقوط عابريها ، كل هذا  لنافذة  تكحلت  حوافها  بمراود  النيران ، زجاجة خمر تتجاوز نسبة الكحول فيها نسبة المكترثين بتيار الوعي ، يقبض عليها فتى يخرج من باب في الطابق الأرضي على حديقة تطل على البحر، نبتت الأواني البلاستيكية فوق عشبها المبعثر ، البراميل وما شابه. بدا في إحكام غلقها وشد وثاقها بحبل غليظ ، وهو يجرع من فم الزجاجة جرعات كبيرة جعلت البراميل تميد في نظره حتى كونت كتلة ضخمة من البلاستيك، نظر إليها ثم عاد للخلف ينظر لها من زاوية ثانية وزاوية أخيرة ، دخل إلى الباب مركزا نظره على الحائط الذي علق عليه صورة لامرأة ريفية تتأبط بحارا صغيراً ، كان يوما يتشبث بالدفة يريد إنقاذ مركب من الغرق ، دفع الطوف البلاستيكي في الماء وألقى بعلبة سجائره وصار يرقص الدبكة على إيقاع قديم ، حتى اختفى في ظلمة البحر ، ولم ينتظر أن يقطع خط التقاء البحر المحدود ببداية السماء .
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق