في البداية جذبني اسم الكتاب لارتباطه باسم كتاب لعميد الأدب العربي بحق " د . طه حسين " وكتابه " الفتنة الكبرى " الذي أثر فيَّ كثيرا عند قراءته للمرة الأولى منذ أعوام ، و اعتقدت أن صاحب الكتاب الجديد يحاول أن يستمد شهرة للكتاب بارتباطه باسم الكتاب القديم ، ولكن عندما وجدت تنويها على غلاف الكتاب بأن مقدمه هو الأستاذ . " جمال الغيطاني " فاستشعرت أهمية الكتاب .
http://www.youtube.com/watch?v=83k6Fpcy33w&feature=related
هو بحث للدكتور " أبو النصر محمد الخالدي " حصل به على درجة الدكتوراه 1950 من جامعة القاهرة – فؤاد الأول آن ذاك – ويدور البحث حول الفترة التي ثار فيها " المختار الثقفي " ثأراً لمقتل الحسين . وهو البحث الوحيد لصاحبه باللغة العربية ، لأن كل كتبه و أبحاث كانت باللغة الأردية و الإنجليزية حيث ترجع أصوله لمدينة حيدر أباد الهندية الآن ، تلك المدينة التي كانت تتمتع في الماضي بحكما ذاتيا حتى عام 1948 ، مما مكن أصحابها من الارتباط بشكل قوي بالحضارة العربية الإسلامية لأن حكامها كانوا من المسلمين قبل ضمها إلى الهند في هذا التاريخ ، ويعد الخالدي من أهم الباحثين في التاريخ الإسلامي والهندي ، فكتب بالإنجليزية و الأُوردية ، وفي طريق دراسته مر بالقاهرة كي يحسن من لغته العربية التي أتقنها وصار نابغاً فيها ، لكنه أكثر من الكتابة بلغته الأم عن عمد لكي يثري اللغة بأبحاث ودراسات تاريخية لم تكن موجودة من قبله ، واستمرت حياته في مصر في الدراسة وحضور المحاضرات لأهم أعلام الفكر في فترة تألقت البيئة الثقافية المصرية بشخصيات أثرت الفكر الإسلامي في عمومه مثل طه حسين وخالد محمد خالد وعباس محمود العقاد و الكثير من علماء اللغة والتاريخ ، فاستغل أبو النصر وقته على أحسن تقدير في النهل من الثقافة في بلد معظم ثرواتها من الثروات الفكرية لعلمائها ومفكريها ، ولكن القدر كان ضده حيث قامت الحرب بين الهند وبلاده حيدر آباد ، وفرضت الهند عليهم عقوبات اقتصادية عام 1948 ، فتأثرت البلاد مالياً وبالتالي أثر ذلك على الطالب وعلى منحته ، ولكنه استمر في الدراسة بمعونة من مفتي فلسطين الحاج " سيد أمين الحسيني " الذي كانت تربطه علاقة شخصية مع حاكم حيدر أباد ، حيث ساعده الأخير في شراء الأراضي الفلسطينية كي يمنع الإحتلال الصهيوني من وضع يده عليها ، فبدوره قدم المفتي المعونة لأبو النصر كي يكمل دراسته ويحصل عل درجة الدكتوراه عن فترة تاريخية من أكثر الفترات اشتعالاً بالفتنة في التاريخ الإسلامي ، فاختار الكاتب شخصيته الرئيسة وهي المختار الثقفي وثورته وأسبابها وبواعثها والنتائج المترتبة عليها ، وتحليل غوامض الأحداث التي أدت إلى القضاء على الثورة .
Http://www.youtube.com/watch?V=qw7mch_yxm4&feature=related
بداية أود رسم صورة موجزة لشخصية المختار الثقفي والعوامل التاريخية التي مرت بالعراق فكونت اتجاهاته الفكرية وهيئت له القيام بالثورة ، لأن هذه الثورة تختلف عن عداها من الثورات في نفس الفترة أو فترات سابقة ، فقد تميزت بالغموض وكثرة الروايات والتأويلات المتواترة عن أسبابها والبيئة المحيطة بها ، مقارنة بثورات أخرى مثل ثورة " ابن حجر الكندي " التي كانت واضحة الأسباب والنتائج ، حيث كان الغرض واضحاً وهو الخروج على الحاكم وتقويمه سواء كان أموياً أو من أي حزب آخر ، ونعود إلى المختار نفسه الذي بدأ حياته من الخوارج ثم تركهم ، فكان أمامه الإنضمام إلى أحد الحزبين إما الشيعة أو الزبيريين في مواجهة الحزب الثالث وهو الأموي ، فانضم وهو في العراق إلى الزبيريين وقام بدور هام في الدعوة لهم ، لكنه كان يدعوا سراً ل " محمد ابن الحنفية " ، فشخصية هذا الثائر كانت مستودعاً للصراع والتأويل في العديد من مراحل حياته ، فهو ثقفياً نسبة إلى بني ثقيف وهي قبيلة من أرفع قبائل العرب مقاماً ، فهو " المختار بن عبيد الله بن مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي " ، وتواترت الأقوال عن سنة ميلاده حيث قيل أنه ولد عام الهجرة ، أما فترة شبابه فلم يذكر التاريخ عنها الكثير ، حتى عام 37 هجرية عندما أنابه عمه " سعد " لفترة قصيرة في ولاية المدائن ، وعاد مرة أخرى عام 41 هجرية إلى المدائن عندما استعان " الحسن بن عليِّ " بعم المختار " سعد " بعدما غدر به أهل العراق ، وتحصن عنده خوفاً من بطش الأمويين ، ويبدو أن المختار في هذا الحين كان يمهد مع من حوله من الموالي والشيعة للانقلاب والقيام بالثورة ، أثناء حكم معاوية ، لكن الأمويين كانوا في منتهى اليقظة والحرص على دولتهم الجديدة ، فلم يتيحوا فرصة لأحد في التملص من سلطانهم ، أما بعد موت معاوية وتولية ابنه يزيد ، ورفض " الحسين بن علىِّ " و " عبد الله بن الزبير " إعلان البيعة له ، قامت المعارك بين اتباع الحسين من الشيعة بقيادة " مسلم بن عقيل " ووالي يزيد بن معاوية على الكوفة " عبيد الله ابن زياد " ، وطالب " مسلم " البيعة للحسين ، فانتهز المختار الفرصة وبايع وساند الشيعة ولكنه لم يشترك في القتال خوفا من " ابن زياد " وسطوته ، ولما انتهى القتال بالفعل لصالح الأمويين ، استقدمه " ابن زياد " متهماً إياه بالخروج ، فلما نفا الاشتراك في القتال وشهد معه الشهود على صدق روايته ، ضربه " ابن زياد " بعود من حديد في وجهه فذهب بعينه ، وسجنه أثناء الفترة التي تم فيها قتل الحسين عام 61 هجرية .
http://www.youtube.com/watch?v=1x9JNTMA9u8
وخرج المختار من السجن بشفاعة من " عبد الله بن عمر " ، متنقلا بين الحجاز والطائف ، واشترك في القتال بجانب ابن الزبير ضد أهل الشام الموالين للأمويين إلى أن رحلوا بعد وفاة يزيد بن معاوية ، وأبلى بلاءاً حسناً إلى أن استتب الأمر للزبيريين في الحجاز ، ولكنه لم يجد المكافأة التي كان ينتظرها من ابن الزبير في اشراكه في أمور الحكم ، فاختار العودة للكوفة متعللاً بأن وجوده هناك أنفع لابن الزبير ليدعوا له ، واجتمع سراً بمحمد بن الحنفية واستأذنه الرحيل عن الحجاز ، ولم وصل تقرب من أشراف الكوفة خاصة الهمدانيين منهم لقربهم و ولائهم للطالبيين و كرههم للأمويين ، اللذين مروا بعام من أصعب أعوام دولتهم هو 64 و65 هجرية ، حيث توالى على الخلافة ثلاثة منهم في نفس العام هم معاوية بن يزيد ، مروان بن الحكم و عبد الملك بن مروان الذي استتبت له الخلافة ، بعد مقتل سليمان بن صرد زعيم التوابين على يد عبيد الله بن زياد في معركة عين الوردة ، وهنا انتهز المختار الفرصة ودعا لمحمد بن الحنفية بالإمامة وأطلق عليه لقب المهدي ، وخرج على الفريقين سواء الأمويين أو الزبيريين داعيأً للثأر للقتلى من آل البيت ، وانضم إليه الأنصار من كل صوب استعداداً للقتال في جانبه ، وكان من بينهم " إبراهيم بن الأشتر " أحد القادة المقاتلين المحنكين في هذه الفترة ، فحاصر والي عبد الله بن الزبير في قصره حتى أرغمه على الخروج من الكوفة ، وأرسل لابن الزبير مخادعا أنه ما زال في طاعته ، ثم تحول إلى قتلة الحسين وأباد منهم من استطاع ، وأرسل ابن الأشتر إلى عبيد الله ابن زياد إلى المدائن ، فقضى على ابن زياد وجيشه ، وأرسل رأسه للمختار ، ولكن ما يثير الاهتمام هنا هو عدم وضوح آراء محمد بن الحنفية فيما كان دائر من صراع ، فهو لم يطالب بالخلافة لنفسه وكذلك لم يبايع ابن الزبير ولا حتى أحد أفراد بني هاشم ، إذا وضعنا في اعتبارنا أنه كان متفهماً لمآرب المختار ، أو على الأقل كان متشككاً فيها فكان عليه أن ينفي صلته به ، فما كان من ابن الزبير إلا أن يضع الهاشميين في سجن " عارم " القريب من بئر زمزم ، متوعداً إياهم القتل والحرق إذا لم يتموا له البيعة ، مما قلل من شعبيته بين عوام المسلمين، وهنا أرسل بن الحنفية رسله إلى الكوفة يستنهض أهلها على الوقوف بجانبه ويطلعهم على حاله ، ويسألهم ألا يخذلوه كما فعلوا مع أخيه الحسين من قبل ، فلم يجد المختار فرصة أجود من تلك ، وأرسل " أبا عبد الله الجدلي " – المعروف بحبه لآل البيت وعلاقته الجيدة بهم ـ إلى الحجاز على رأس جيش لفك الحصار في مكة ، فلما وصلها كانت جيوش ابن الزبير خارج الحجاز ، فاستطاع بسهولة فك الحصار والوصول لابن الحنفية ، الذي منعه من القتال في الحرم ففوت على المختار القضاء على ابن الزبير ، في فترة انشغل الأميون في تسيير أمور الشام السياسية تاركين العراق والجزيرة مرتعاً للثائرين ابن الزبير والمختار ، أو ربما كان هذا مقصوداً كي يقضي أحدهما على الآخر أو تضعف قوة كليهما ، فرأى ابن الزبير تولية ابن أخيه مصعب بن الزبير أمر البصرة ، التي هرب لها الكثير من أهل الكوفة بعيدين عن المختار وبطشه ، وقاموا بتحريض مصعب على قتاله ، فدارت معركة طاحنة بينه وبين جيش المختار الذي قاده " أحمد بن شميط " ، في غياب الأشتر الذي ساءت العلاقة بينه وبين المختار ، وكان جيش الكوفة يتكون من العرب والموالي ، وفي هذه الأيام كان التوتر بينهم هو الغالب لازدياد النعرة القبلية عند العرب ، فاختلط النصح بالوشاية والولاء بالهوى ، فاستطاع مصعب القضاء عليهم حتى أنه لم يترك أسرى ، ولما بلغ المختار الخبر أعد جيشاً جديداً ، وسار هو بنفسه للقتال ، والتقى الفريقان في " أرش كسكر " ودارت معركة ثانية هزم فيها المختار ، ليفر إلى الكوفة ويتحصن بقصره ، ويحاصره مصعب أربعين يوماً ، يخرج أثناءهم المختار عدة مرات للقتال الشديد في شوارع الكوفة ، إلى أن مل أصحابه ، فيخرج للمرة الأخيرة للقتال في تسعة عشر رجلاً حتى يقتل ، فيأمر مصعب ابن الزبير بقطع كفه وتسميره جوار المسجد .
http://www.youtube.com/watch?v=UZkV---CfBY
ها هي القصة بشكل موجز كما تواترت على ألسنة الرواة ، لكن الدكتور " ابو النصر الخالدي " لم يكتفي بذلك ، وإنما قام بتحليل جميع الجوانب السياسية والإجتماعية والعقائدية التي مرت بالدولة الإسلامية وأصُّل لها بشكل علمي ،وأوضح مدى تأثرها باتساع رقعة الدولة ودخول العديد من الأجناس في حظيرة الدين وظهور الخلافات والتعرات القومية التي أسهمت أحيانا في فت عضد الدولة ، وأسهمت أحياناً أخرى إثراء الجانب الثقافي لها ، كما قام الكاتب بتحليل آراء الرواة للأحداث ومناقشتها ورد بعضها ،فمن ينتمي إلى الشيعة يروي الرواية من وجهة نظره ، ومن ينتمي للسنة يرويها كما يرى ، وهناك من خالف الطرفين و رواها بشكل موضوعي غير متحيز، ويرجع ذلك لقصر الفترة التاريخية التي مرت داخلها خطوب كثيرة و عظيمة ارتبطت بما قبلها من وقائع الفتنة الكبرى التي يمتد تأثيرها علينا إلى اليوم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق