الأربعاء، 11 مايو 2011

" تهويد التاريخ " حالة صعبة بين النص و الترجمة .



أود قبل تقديم قراءة لكتاب  " تهويد التاريخ " أو " البشرية نفقد الذاكرة "  - كما ورد على غلاف الكتاب -   أن يتصدر المقال سيرة ذاتية موجزة لكاتبه " إيمانويل فيلكوفسكي " الذي ولد في مدينة تسبك  الروسية عام 1895 ، وغادر منزل الأسرة في سن الثالثة عشرة من عمره ، وذهب مترجلاً على أقدامه إلى مركزٍ من مراكز تدريس التلمود في روسيا ، ودرس اللغة الروسية والرياضيات  ، ثم إلى فرنسا للحصول على دورة تعليمية في الطب من جامعة مونبلييه وعدة دراسات في الطب النفسي من جامعة إدنبرج ، وعاد إلى روسيا قبل نشوب الحرب العالمية الأولى ، والتحق بكلية الطب وتخرج منها عام 1921  ، وبعدها مارس  مهنة الطب لفترة لم تدم طويلا في برلين  حيث انتقل إلى فلسطين عام1924 ، وقام بشراء قطعة أرض في النقب أنشأ عليها مستعمرة تعاونية موجودة إلى اليوم من أكبر المؤسسات الزراعية في شمال صحراء النقب ،  وظل مقيماً بها إلى  عام 1939  ، وخلال هذه الفترة قام بممارسة عمله الأساسي كطبيب نفسي ، وبجانب ذلك نشر بعض كتاباته في مجلة " أماجو " التي كان يحررها " سيجموند فرويد " ، وعندما لاقت قراءته لدراسة فرويد " موسى والتوحيد " جدلا كبيرا وآراءاً متباينة شكل هذا تحولا جزرياً في حياته ، فألقى بالطب النفسي جانباً ، وتفرغ لدراساتٍ جديدة عليه وهي البحث في التاريخ القديم وخاصة الفرعوني ، محاولا تشويهه ، ونسب كل إنجازاته الحضارية لليهود ، ومالم يستطع تلفيقه بدأ في هدمه من خلال كتاب عنوانه " أُديب و إخناتون " ، وكانت فكرة الكتاب الرئيسة هي ربط الأُسطورة اليونانية لأُوديب بتاريخ إخناتون أول الموحدين ، حيث استند لرأي للطبيب النفسي " كارل إبراهام " الذي كان يقول بأن الاتجاه الديني لدى إخناتون لم يكن إصلاحيا ، ولكن يرجع إلى عقدة نفسية وهي عقدة أُوديب الشهيرة ، حيث عانى من شعورٍ عدائي تجاه أبيه يقابله ارتباط وحب شديد لأمه ، وإصلاحه الديني والاجتماعي ما هو إلا إنفجار لشعور مرضي مكبوت ، وعليه بنى " فيلكوفسكي " نظرية  أكثر فداحة .
http://www.youtube.com/watch?v=MwMK2c1RfZI
 فقال أن " إبراهام " لم يدرك أن إخناتون هو أُديب نفسه ، ولم يشتهي أمه كما يفعل باقي المرضى النفسيين ، بل زنى بها بالفعل ، وقتل أباه لهذا السبب ، فثار عليه كهنة آمون واستنكروا فعلته ، فأعلن هو عليهم الثورة وعلى ديانة آمون ، وهنا قد حول إخناتون من أول الموحدين إلى آثم خسيس زنى بأمه وقتل أباه ، وأنهى كتابه عام 1940 وهو مقيم في الولايات المتحدة الأمريكية ، ولكنه لم ينشره حتى عام 1960 ، بعد أن قام بنشر كتبه التي تلته التي تمثل مشروعه ( عصور في فوضى ) وهي : " من الخروج إلى الملك إخناتون " ، " عوالم في تصادم " ، " الأرض في إضطراب " ، وبعدها نشر الكتاب سالف الذكر " أوديب وإخناتون " ، وتلا ذلك كتابين في تاريخ العالم القديم هما " شعوب البحر " و " رمسيس الثاني وعصره " ، ونرى من الموضوعات التي أولاها اهتمامه ، كأنه يريد ترتيب أوراق التاريخ من وجهة نظره فحسب ، كحائك يريد تكييف سروال كغطاء رأس .
http://www.youtube.com/watch?v=jz-V6hUXEWk
وكما أسلفت سابقاً أن الكتاب حالة خاصة وصعبة ما بين النص والترجمة ، لأن مشروع " فيلكوفسكي " لإعادة ترتيب الأحداث التاريخية كان قائماً على بناء تاريخ يهودي ظل مبهما غير واضح الملامح حتى القرن التاسع قبل الميلاد ، وهدم ما قبله من وجهات نظر مدعمة بآراء علماء التاريخ ، ومؤكدة بثوابت موجودة فعلا على الأرض من آلاف السنين ، و لكي يصعب من عملية تفنيد آرائه ألبس مشروعه ثوباً علمياً جيولوجي متكيء على مسلمات هو وحده الذي افترضها ، وبراهن عليها بما يتفق ووجهة نظره ، ومن هنا تأتي صعوبة التحرير والترجمة و تقديم مجموعة كتب " فيلكوفسكي " بمنتهى الأمانة العلمية ، ثم الرد عليها وتفنيدها بشكل علمي متخصص غير ذي ميل وهوى ، وقد أخذ  الكاتب والناقد " رضا الطويل " على عاتقه  مهمتين ، الأولى وهي التحرير ، والثانية هي الإنفاق المادي ، بتدعيم مجموعة كبيرة من الباحثين والمترجمين على مدى عشرين عاماً ، ليتم إخراج مجموعة " تهويد التاريخ " في خمسة مجلدات يحمل كل منها على حدة العنوان الأصلى  للكاتب ، ومن داخله الرد على ما هو موجود فيه من آراء .
http://www.youtube.com/watch?v=0Zt2CsY3lZs&feature=related
مُسًّلـمة بنى عليها الكاتب نظريته  في كتاب " عوالم في تصادم " ، مُذنّب  يتحرك بشكل افتراضي في منظومة كوكب المشترى ، يصطدم بالأرض والمريخ معاً ، ويضطرب المسار الكوني لكوكب الأرض ، فتنعكس حركة دورانها ، مخلفة من ورائها شمساً تغرب في الشرق وتشرق من الغرب ، ويتغير ترتيب الفصول والجهات الأصلية ، وهنا تحديداً على حد قوله حدث التيه ، وانشق البحر الأحمر لينتهز موسى والإسرائيليون الفرصة عابرين البحر هربا من الفرعون ، وهنا توقفت الأرض عن الدوران بأمر يشوع بن نون ، حين قال أمام عيون إسرائيل : ( يا شمس دومي على جبعون ويا قمر على وادي ايللون ، فدامت الشمس ، ووقف القمر ) ، رغم أن كثير من العلماء أرجعوا هذه الظاهرة إلى منتصف الألف الثاني قبل الميلاد ، و ليس التاريخ الذي عينه  فليكوفسكي .
تستمر نظرية التهويد متمسكة باتجاهها الذي بدأته في جانب التاريخ الطبيعي ، منتقلة إلى التاريخ السياسي ، فكما ربطت بين الكارثة الطبيعية والخروج ،  والبلايا العشر الواردة في سفر الخروج من التوراة ، فسرها " فيلكوفسكي " متجاهلا الجانب  الروحاني في الكتاب السماوي  وأخذها بشكل فيزيقي بحت للأحداث التي  صاحبت  الكارثة ، مجرداً النص الديني من جوهره الميتافيزيقي  ، وفي المقابل ترد بردية إيبور من داخل نصوص التاريخ المصري ، التي تصف  بدورها الكارثة ، فيأولّها هي الأخرى بطريقته على أنها تتحدث عن كارثة سياسية اجتماعية وليست طبيعية ، ومن الملفت للنظر أنه لم يترك لحظة في التاريخ إلا وأوّلها تأويل صادم جديد ، و كأن علماء التاريخ المصري درسوا برديات أخرى وتوراة أخرى .
ومع توالى الكتب في المجموعة نرى ترتيبا آخر للأحداث التاريخية الهامة ، وتعريفات جديدة للشخصيات ، وهدم و إعادة بناء على أطلال ما قوضه من منجزات تلك الشخصيات ، إخناتون يعاني من عقدة أوديب ، الهكسوس هم العماليق الذين أتو من مكة ، و الذي تصدى لهم  هو ملك اليهود شاؤول ، وليس أحمس مؤسس الأسرة الثامنة عشرة ، حتشبسوت هي ملكة سبأ المبهورة بالتقدم الفني والعمراني لمملكة أورشليم ، وتحتمس نهب كنوز الثقافة والفن الإسرائيلي ونسبها إلى نفسه ، أعتقد الآن أن الهدف أصبح جلياً لكل من له عيون ترى ، وعقل يفكر ، هل من المنطقي أن تتجاهل البشرية في كل وثائقها التاريخية كارثة كونية ضخمة كالتي يصفها ..؟ ، ولكنه يرد عل ذلك بإجابة تبعد عن المنطق كل البعد : ( يلجأ الفرد إلى ميكانيزمات مختلفة كي يبقي المادة الصادمة في ظلام الكبت ، تفعل الإنسانية جمعاء ) ، أى إجابة هذه ؟ ، ولكن الإجابة عندي منقولة من مقدمة " رضا الطويل " ، إن " فبلوفسكي " كرس حياته كلها لتهويد التاريخ ، وليس أدل على أنه لم يتوقف عن ذلك حتى بعد موته ، فهناك مجلة صدرت باسمه تستكمل مشواره الفكري تصدر بصفة منتظمة ربع سنوية تحت اسم " الفيلكوفسكية " .        


         

الثلاثاء، 10 مايو 2011

الطبقة العاملة والعمل السياسي



يسطر كتاب  " الطبقة العاملة والعمل السياسي "  صفحات من نضال الطلبة والعمال  في فترة الأربعينيات من القرن العشرين  ، وهي مذكرات  ووثائق مهمة  لكاتبه الصحافي والعامل " طه سعد عثمان " و أحد قادة الطبقة العمالية في هذه الفترة  المهمة والمحتشدة من تاريخ مصر . ويؤرخ لبداية إنشاء وكيفية تكوين الاتحادات العمالية والأحزاب  والصحف اليسارية واهم التهم التي وجهت في القضايا السياسية  ل " طه "  هو وزملائه من قادة الحركة العمالية في المناطق الساخنة في مصر مثل مصانع شبرا الخيمة و الإسكندرية  منذ تكوين الحزب الشيوعي المصري المعروف بحزب 24 نسبة إلى سنة إنشائه ، وحزب المقاصد المشتركة للعمال ، والبيانات المتعددة التي أصدرها العمال سواء من خلال توزيعها من خلال صحف إشتراكية تحمل نفس الهم أو طباعتها وتوزيعها على أيدي العمال أنفسهم ، والمؤامرات والتحالفات التي كانت تعقد بين الحكومة متمثلة في القلم المخصوص ( البوليس السياسي) وبعض قيادات العمال ، وتحالفات أخرى عقدت بين حكومة النقراشي والإخوان المسلمين لفت عضد العمال وحركاتهم النضالية خلال الفترة من أواخر الثلاثينيات إلى بداية الخمسينيات .
بداية الكتاب تتحدث عن تكوين " لجنة العمال للتحرر الوطني " عام 1945 حيث توازى وجودها مع زيادة الوعي العمالي بضرورة تكوين اللجنة  وقيادتها من العمال فقط  - دون غيرهم من اللذين يحاولون ركوب الموجة العمالية ومحاولة استقلالها عن الأحزاب السياسية الفاسدة التي كانت تريد التلاعب بالعمال والسيطرة عليهم لتحقيق مكاسب من وراء  وجودهم بقوتهم العددية الكبيرة داخل حظيرة كل حزب منهم ، وكان من الشخصيات العامة التي تريد السيطرة على الحركة   النبيل " عباس حليم " مؤسس حزب العمال – رغم أنه كان من أفراد أسرة محمد علي -  ، وأيضا الكثير من الأحزاب مثل الوفد والوطني و أحزاب الأقلية ، وبشكل توثيقي يعرف بالأعضاء الستة المكونين للجنة كسيِّر ذاتية لهم وهم محمد يوسف المدرك (سكرتير عام اللجنة) وعرض لتاريخه النضالي وفترات اعتقاله ، محمود محمد العسكري وهو من  أوائل العمال اللذين تبنوا الفكر الإشتراكي ، وكان يتمتع بصوت قوي وزعامة واضحة بين عمال النسيج ، وأيضا سيرة ذاتية له ولفترات اعتقاله في فترات مختلفة ، " طه سعد عثمان " وكان رئيسا لنقابة عمال النسيج عام 1938 ثم تقلد العديد من المناصب في النقابة في أوقات مختلفة من الكفاح العمالي ، وعمل صحافيا ومحررا في الكثير من الصحف اليسارية ، ومن خلال هذا النشاط وضع في القائمة السوداء من قبل اتحاد الصناعات وفصل من عمله ليعمل مدرسا في إحدى المدارس الإبتدائية إلى أن تم فصله منها بعد اعتقاله ، " محمود مدبولي سليمان " وهو مؤسس نقابة عمال البواخر البحرية و سكرتيرها عام 1942  ، وكان عضوا في اللجنة الوطنية للعمال والطلبة عام 1946 ، وقبض عليه عدة مرات بتهمة الشيوعية أو التحريض عل الإضراب العام ، " محمود محمد قطب " كان يعمل نساجا بمصنع سليم خزام بالإسكندرية ، وكان عضو مؤتمر نقابات عمال مصر ، ولكن توقف نشاطه في أواخر الأربعينيات ، " محمود حمزة " كان مثالا فعليا للكفاح العمالي ، حيث عمل في صناعة الأحذية يدويا ، وكان عضوا بالحزب الشيوعي المصري ، ومؤسسا للعديد من اللجان والمؤتمرات ، ثم تطرق الكتاب لبعض من الأعضاء الغير معلنين المنتمين إل اللجنة أ مثال " يوسف درويش " المحامي الذي كان يخدم القضية ويدافع عنها من بعيد ليظل قادر على التحرك أثناء فترة اعتقال الأعضاء المعلنين .
http://www.youtube.com/watch?v=gSOVgF5KjEU
ثم يتابع الكتاب سرد برنامج اللجنة وما يحويه من بنود ، بداية من التحرر من الاستعمار واستقلال وادي النيل الكامل ، والقضاء عل الجوع والحرمان ، ورفع مستوى العمال ومن يناظرهم في المجتمع مثل الفلاحين وجنود الجيش والشرطة ، في العديد من النواحي الإقتصادية والثقافية ، وأن تصبح الأمة مصدر السلطات ، وبعدها يبدأ في عرض مقومات اللجن من حيث التسمية ، والقيادة ، والبرنامج ثم القاعدة الجماهيرية ، وتكوين المقر ، وبعد ذلك الصوت الذي كان يعبر عن صوتهم وتمثل في مجلة " الضمير "، وبدأت اللجنة بالمطالبة ببعض المطالب النابعة من أهدافها السياسية ، مثل وحدة وادي النيل تحت العلم المصري ، إلغاء معاهدة 1936 ، تحديد الملكيات الزراعية الكبيرة ، تطبيق جميع قوانين العمل على العمال الزراعيين وحقهم في تكوين النقابات ، رفع مستوى التعليم خاصة الصناعي ، رفع المستوى الصحي ، بناء الإقتصاد القومي .
http://www.youtube.com/watch?v=TeAd8HSdgvk&p=E44D01FE7E5CC0FC&playnext=1&index=31
بعد ذلك كان لابد أن تصدر اللجنة بيانا  - بجانب البرنامج -  يعبر عنها ويعرفها بالجماهير ، وقد وصف البيان الواقع المصري  منذ ثورة 1919  ، بما يتفشى فيه من مرض و فقر و وجهل ، وقام بتحديد المعسكر المعادي ، وهو المستعمر ومن يساعده من الحكومة والرأسماليين ، وبشكل ملحمي حكى الكاتب الصعوبات التي واجهتهم أثناء طباعة البيان ونشره في ربوع مصر ، وحالة السرية والكتمان ، وتضييق البوليس السياسي على تحركاتهم ، والمعاونة الفعالة لعمال المطبعة في حمايتهم ، فتم طباعة 15000 نسخة من البرنامج و25000 من البيان، حتي أصبح البيان في أيدي الناس ، سواءاً تم إرساله بالبريد ، أو ألصق على الأبواب و أعمدة الإنارة ،  في صبيحة الثامن من أكتوبر 1945 ، فأثار ضجة كبيرة  في المجتمع المصري والوسط السياسي ، خاصة أن البيان قد أرسل للأقاليم عبر البريد لعمد القرى اللذين اعتقدوا أنه إعلان من قبل الحكومة ، فقاموا بقراءته وتوضيح بنوده  للعامة بمنتهى الحماس ، ولكن ردود الفعل كانت متباينة ، بين التأييد والمعاتبة والرفض ، حيث رفضه العمال المرتبطين بالنبيل " يوسف حليم " وأيضا المنتمين  لحزب الوفد ، أما موقف المعاتبة قد اتخذه زملاءهم النقابيين من التيارات الموازية لانفراد اللجنة بالبيان وحدها ، ثم أتى بعد ذلك التأييد من قدامى النقابيين أمثال " محمد البخاري " و " عبد الفتاح قنديل "  .
http://www.youtube.com/watch?v=khS0yR2vXZg
كان هناك تبعة أخرى لما حدث لم تكن متوقعة ، أن تم استدعاء أعضاء اللجنة  بشكل سري لمقابلة رئيس الوزراء ووزير الداخلية في نفس الوقت  " النقراشي " مطالباً إياهم بالتنازل عن بعض بنود البرنامج المعادية للقصر والإنجليز مقابل بعض المساعدات المادية و الدعم المعنوي من خلال التحرك وسط الجماهير بصورة علنية ، ولكنهم رفضوا رفضاً باتاً مغادرين مبنيي وزارة الداخلية ، ورغم أنم النقراشي حذرهم بعدم إعلان اللقاء بينهم وأنه لقاء سري ، إلا أنهم في العدد التالي من مجلة " الضمير " كنوع من إثبات الذات  أمام الحكومة الضعيفة  قاموا بنشر تفاصيل المقابلة ، و توالت نشاطاتهم  بين المحلي والدولي ، وكان من أهمها : كتيب تحت عنوان " الرد على خطاب العرش " وقاموا بتفنيد بنود الخطاب منتقدين إياها ، واختاروا يوم العاشر من مايو عام 1946 ليكون " يوم فلسطين " معلنين توحد الكفاحين الفلسطيني والمصري ضد الإستعمار ، وغفلة الحكام العرب في تضييع حقوق شعوبهم بالإحتكام إلى لجنة التحقيق الإنجليزية الأمريكية ، وعن جانب الكفاح على المستوى الدولي الذي تمثل في إيفاد " يوسف المدرك " إلى المؤتمر الدولي لنقابات العمال في باريس ، وإرسال خطاب لمجلس الأمن يوضح كمية المساعدات التي قدمتها مصر للجيوش المتحالفة ضد الفاشيين ، وأيضا إرسال تلغراف إلى " هنري سباك " رئيس هيئة الأمم المتحدة بلندن  ترجو اللجنة فيه إدراج القضية المصرية ضمن جدول مجلس الأمن ، لأن وجود القوات الأجنبية نقض لجميع المواثيق الدولية وطعن في مبادىء الأمم المتحدة .
http://www.youtube.com/watch?v=MrahtfDcVG8
وفي النهاية عرض لأسباب إنتهاء وجود اللجنة مرجعاً ذلك إلى التضييق الأمني، وبعض الأسباب الخاصة بالتقدير الخاطىء لبعض الأمور والشخصيات السياسية في هذه الفترة ، وانغلاقها على نفسها من الأفراد المؤسسين وغياب القاعدة الجماهيرية ، فقد توقف النشاط بمجرد القبض عليهم  في يناير 1946، وانقسام الحركة اليسارية ألى نصفين جزء ينتمي إليهم والباقي ل " اسكرا " و " حمتو " اللتان اتحدتا بعد ذلك في الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني " حدتو " ، وبعد ذلك أعطى مساحة للمجهودات الصحافية  لمجلة " الضمير ومجلة " الفجر الجديد " كصحف يسارية كان لها تأثير كبير على تنامي الوعي العمالي بالحقوق والواجبات تجاه المجتمع .
http://www.youtube.com/watch?v=oxohewBBRL8
وآخر فصول الكتاب يعرض لواقعة رائعة كانت تدلل على التواصل النضالي العالمي للعمال أكثر ما تدلل على تنامي الحركة العمالية المصرية ، أو حتي المد الثوري ، وهذه الواقعة كانت تنتمي إلى عمال شعب مناضل صديق ، هم عمال إندونيسيا ، ونضالهم تجاه المحتل الهولندي ، وحدث التالي عام 1951 أثناء الثورة الإندونيسية ، إذ بعثت هولندا بأكبر بوارجها الحربية لقمع الثورة ، وكان مقرر لها العبور من قناة السويس ، وإذا باتحادات العمال في بورسعيد ، الإسماعيلية ، والسويس تبدأ في البداية بحركة لمنع عبور البارجة أساساً من القناة ، فيرفع لهم شعار التدويل ، فيرفعوا شعار قطع التعامل معها بأي شكل إن كان ، ومناوئة أي متعامل معها والوقوف ضده ولو بالقوة ، وبالفعل سطر هذا صفحة ناصعة البياض من جهاد عمال مصر الحقيقيين تجاه قضايا العمال في العالم ، وتخطي فكرة الوطن أو اللغة أو الدين أو الجنس ، هم عمال فحسب يمرون بمحنة ويجب الوقوف بجانبهم ضد الإمبريالية بكافة أشكالها ، سواء كانت هولندية أو إنجليزية .

ورغم وجود صور لوثائق هامة تخص الحركة العمالية والتأريخ لها ، إلا إني لا أستطيع أن أعتبر الكتاب سوى سيرة ذاتية لكاتبه " طه سعد عثمان " ، ولا أستطيع اعتباره توثيقا علميا يمكن الرجوع إليه كمرجع معتمد ، في رسالة أو دورية علمية ، فقد عايش الكاتب مجموعة كبيرة من الأحداث والشخصيات والتيارات في الحركة الحزبية و النقابية المصرية ، لكن آراءه لا تعدوا إلا آراءاً شخصية تخصه هو فقط ولا تمثل التيار اليساري في هذه الفترة المتأججة من تاريخ مصر ، تلك الفترة التي تحمل مئات من وجهات النظر حول كل حادثة ، كما تحمل العديد من الروايات لكل منها حسب رؤية الراوي لها ، أو مستوى وعيه العام  في هذه الفترة ، و للكاتب كل الشكر على هذا المجهود الوفير الذي بذله في هذا الجزء من مذكراته الذي أمتعنا به حقا ، و سرد لكل الوثائق التي عاصرها أو اشترك في أحداثها ، مثل محاضر التحقيقات التي أجريت معه من قبل البوليس السياسي ، وأغلفة المجلات والجرائد التي اشترك في تحريرها ، كل الشكر " طه سعد عثمان " وكتابه " الطبقة العمالية " .

الجبل


وط ء ظلال اشجار الجزورين التي كانت تقف على الطريق الرملي حيال الضوء المنبعث من المحاق ، كان يرى- ليلا- رجالا ملثمين يقطعون الطريق عرضا من حقـل لآخر، وكان هذا يدب بالقشعريرة فى خاصرته ويضيق من نفَّـسه ، رغم كل ذلك تقدم بخطوات ثابتة متأنية ، و عندما كان يصل الى آثار الاقدام التي تحزم الطريق ، يتلفت فلا يجد شيئا ، فيتقدم اكثر ، الى ان وصل فجأة الى الجبل العظيم ، الذى طالما سمع عنه الحكايا  منذ كان طفلا ، ها هو امام عينيه ، وحش أسود سيطر على جزء كبير من الارض واختلس عنوة جزء  من جو السماء وله زراع طويلة تمتد  فى البحر تتكئ بمرفأ على الشاطيء ، لقد أخافته الحكايا عن الفارين الى الجبل ولكنه الآن خائفا  من الجبل نفسه ، وأكثر إعتدادا بشجاعة من فروا الى الجبل ، صعد محتاطاً الصخور الاولى فاستهوته اللعبة عندما اجتاز الاختبار الاول بنجاح ، فانطلق متسلقا بسعادة وامل مترع . الى ان وصل الى حافة سفح يمكن الارتكان اليه كمحطة . مد يده يمسك بالصخرة الحادة , فقبضت كفه على اصابع لقدم حافية لإمرأة عارية تماما ، سمراء تشوبها حمرة تكاد تنير المكان المظلم . تقف شاهقة على الحافة ، بوغت فلملم المتبقي من انفاسه ومد إليها ذراع النجدة .فأبت ان تمد يدها وتراجعت مبتسمة الى الخلف ،  ممتلىء هو بذكورة الرجل وخشية  ضياع هيبته رسم صورة جديدة للفحولة القادمة من اسفل الجبل الى اعلاه . واعتمد على الغضب فى الصعود ، وعندما هبط من جذوته السريعة لم يكن فى حاجة لإرتداء ملابسه  .      

الجزيرة


عواء الكلاب مختلف فى الجزيرة ، فهي تعبر عن ذواتها بتؤدة وهدوء ، قطعة من الأرض يحدها البحر من جهة الشرق ، و نهر عميق تعيش فيه التماسيح يصب فى البحر من  جهة الجنوب ، إستوطنتها العائلة منذ بضعة قرون وحذت فى باقي الجهات خندقا يفصلهم عن منطقة البرك ، بدعوى انه جنابية لتخزين المياه فى وقت الفيضان ، لكنهم تركوه خاليا للضواري ، و تحولت الأرض الخصبة  لقرية كبيرة تتوسط المزارع وازداد عدد البيوت وأصبح لبعضها تاريخ حيث تحول أقدمها لمزار بلا جدران إستحدثت قباب ثلاث على رأسه فناءت وتشرخت الأعمدة من الحمل , فتركوها على حالها كي يفتخروا بتراث الأجداد .  ولم يرصد أحد قدوم الغرباء الى القرية لمدة ثلاثة قرون او يزيد ، رغم وجود من هم خارج العائلة ، ولا يعرف من أين اتو، ولا يسمح لأحد بالخروج من التخوم  أو أن طبيعة الجزيرة لا تسمح  ، واللذين غابوا لم تسمع عنهم الأخبار لأنها تأتى دوما متأخرة بضعة أعوام ، من خلال قطعة من ثياب أو حلى يجدوها عالقة على حافة الخندق ، لأن ملابسهم وبيوتهم مميزة ، كلها بلون واحد ، هو اللون الأزرق ، لون النيلة التي نثر البحر بذورها ونبتت على الشاطئ ، كل شئ بنفس اللون وكأن البحر ألقى جزءا من قلبه على اليابسة فأصبحت جزيرة في جزيرة ،  أما رب العائلة فهو الوحيد الذى لا تصبغ ملابسه وله شارب ولحية ، وبشكل ضمني لا يسمح لأحد الإحتفاظ بهما معا حتى ولو كان من كبار العائلة، واحتكر هو الزراعة ، الغلال و سُلالة من الخيول الضخمة منعت من تلقيح الحمير لتنتج البغال. فلم يعرف الناس التجارة ولم ترسوا السفن على الشاطئ الضحل الطيني من كثرة ما القى فيه النهر من الصلصال , وأغلقت الفواخير لعدم وجود سوق للبيع والشراء وصعوبة التنقل. ولم يعرف الناس بعض الحيوانات مثل القطط والبقر الاصفر لانه عند حفر الخندق تصادف عدم وجود القطط ، وفقط إثنان من إناث البقر بقيا  ، ماتت إحداهما كمدا على الأخرى، يجتمع الجميع مرة كل عام عند قبر المقام ليشعلوا الشموع والمصابيح ، ومنذ عدة أعوام لم يذهب أحد غير افراد العائلة ، لأنهم  وجدوا قطعة من رخام عليها أسم جد العائلة الذى يعتقد انه أول من اتى لهذا المكان ، وحاول الباقون البحث بالمعاول حول الضريح عما يثبت تراثا منفصلا لهم وحدهم او حتى إنتسابهم للجد دون جدوى .لهذا امتنع الباقون عن الذهاب فى اليوم الموعود. فلم يجدوا مكانا بعيدا عن وسط القرية سوى الإتجاه للشرق على شاطئ البحر الذى تجمع السحاب  فى سماءه كبيارق جيش منتصر صفا يلى صف ، وتواطأت الريح مع البحر وكأن السحب مقذوف فى فوهة مدفع. وريح الشرق هي الفتيل،  فيثور الموج ثورة عارمة وتهطل الأمطار ليرتفع النهر ويفيض على ضفته  ويغزو الخندق ، وتستمر المياه فى الإرتفاع وتشتبك مع طلاء الجدران، وتذوب النيلة فى الماء لتخضب كل ما تلقاه بلون ازرق عكر ، وتجمَّع الجميع على ربا قليلة أو على الأسوار المهدمة وانطمست الأزقة والشوارع التي كانو يعرفونها ، ولم يعرفوا أبدا معنى لكلمة الطريق .  

توابع الفتنة الكبرى



في البداية جذبني اسم الكتاب لارتباطه باسم كتاب لعميد الأدب العربي بحق "  د . طه حسين " وكتابه  " الفتنة الكبرى " الذي أثر فيَّ كثيرا عند قراءته للمرة الأولى منذ أعوام ، و اعتقدت أن صاحب الكتاب الجديد يحاول أن يستمد شهرة للكتاب بارتباطه باسم الكتاب القديم ، ولكن عندما وجدت تنويها على غلاف الكتاب بأن مقدمه هو الأستاذ . " جمال الغيطاني " فاستشعرت أهمية الكتاب  .
http://www.youtube.com/watch?v=83k6Fpcy33w&feature=related
هو بحث للدكتور " أبو النصر محمد الخالدي " حصل به على درجة الدكتوراه  1950 من جامعة القاهرة – فؤاد الأول آن ذاك – ويدور البحث حول الفترة التي ثار فيها " المختار الثقفي " ثأراً لمقتل الحسين . وهو البحث الوحيد لصاحبه باللغة العربية ، لأن كل كتبه و أبحاث كانت باللغة  الأردية و الإنجليزية حيث ترجع أصوله لمدينة حيدر أباد الهندية الآن ، تلك المدينة التي كانت تتمتع في الماضي بحكما ذاتيا حتى عام 1948 ، مما مكن أصحابها من الارتباط بشكل قوي بالحضارة العربية الإسلامية  لأن حكامها كانوا من المسلمين قبل ضمها إلى الهند في هذا التاريخ ، ويعد الخالدي من أهم الباحثين في التاريخ الإسلامي والهندي ، فكتب بالإنجليزية و الأُوردية  ،  وفي طريق دراسته مر بالقاهرة كي يحسن من لغته العربية التي أتقنها وصار نابغاً فيها ، لكنه أكثر من الكتابة بلغته الأم عن عمد لكي يثري اللغة بأبحاث ودراسات تاريخية لم تكن موجودة من قبله ، واستمرت حياته في مصر في الدراسة وحضور المحاضرات لأهم أعلام الفكر في فترة تألقت البيئة الثقافية المصرية بشخصيات أثرت الفكر الإسلامي في عمومه مثل طه حسين وخالد محمد خالد وعباس محمود العقاد و الكثير من علماء اللغة والتاريخ ، فاستغل أبو النصر وقته على أحسن تقدير في النهل من الثقافة في بلد معظم ثرواتها من الثروات الفكرية لعلمائها ومفكريها ، ولكن القدر كان ضده حيث قامت الحرب بين الهند وبلاده حيدر آباد ، وفرضت الهند عليهم عقوبات اقتصادية عام 1948 ، فتأثرت البلاد مالياً وبالتالي أثر ذلك على الطالب وعلى منحته ، ولكنه استمر في الدراسة بمعونة من مفتي فلسطين الحاج " سيد أمين الحسيني " الذي كانت تربطه  علاقة شخصية مع حاكم حيدر أباد ، حيث ساعده الأخير في شراء الأراضي الفلسطينية كي يمنع الإحتلال الصهيوني من وضع يده عليها ، فبدوره قدم المفتي المعونة لأبو النصر كي يكمل دراسته ويحصل عل درجة الدكتوراه عن فترة تاريخية من أكثر الفترات اشتعالاً بالفتنة في التاريخ الإسلامي ، فاختار الكاتب شخصيته الرئيسة وهي المختار الثقفي وثورته وأسبابها وبواعثها والنتائج المترتبة عليها ، وتحليل غوامض الأحداث التي أدت إلى القضاء على الثورة .    
Http://www.youtube.com/watch?V=qw7mch_yxm4&feature=related
بداية أود رسم صورة موجزة لشخصية المختار الثقفي والعوامل التاريخية التي مرت بالعراق فكونت اتجاهاته الفكرية  وهيئت له القيام بالثورة ، لأن هذه الثورة تختلف عن عداها من الثورات في نفس الفترة أو فترات سابقة ، فقد تميزت بالغموض وكثرة الروايات والتأويلات المتواترة عن أسبابها والبيئة المحيطة بها ، مقارنة بثورات أخرى مثل ثورة " ابن حجر الكندي " التي كانت واضحة الأسباب والنتائج ، حيث كان الغرض واضحاً وهو الخروج على الحاكم وتقويمه سواء كان أموياً أو من أي حزب آخر ، ونعود إلى المختار نفسه الذي بدأ حياته من الخوارج ثم تركهم ، فكان أمامه الإنضمام إلى أحد الحزبين إما الشيعة أو الزبيريين في مواجهة الحزب الثالث وهو  الأموي ، فانضم وهو في العراق إلى الزبيريين وقام بدور هام في الدعوة لهم ، لكنه كان يدعوا سراً ل " محمد ابن الحنفية " ، فشخصية هذا الثائر كانت مستودعاً للصراع والتأويل في العديد من مراحل حياته ، فهو ثقفياً نسبة إلى بني ثقيف وهي قبيلة من أرفع قبائل العرب مقاماً ، فهو " المختار بن عبيد الله بن مسعود بن عمرو بن عمير الثقفي " ، وتواترت الأقوال عن سنة ميلاده حيث قيل أنه ولد عام الهجرة ، أما فترة شبابه فلم يذكر التاريخ عنها الكثير ، حتى عام 37 هجرية عندما أنابه عمه " سعد " لفترة قصيرة في ولاية المدائن ، وعاد مرة أخرى عام 41 هجرية إلى المدائن عندما استعان  " الحسن بن عليِّ " بعم المختار " سعد "  بعدما غدر به أهل العراق ، وتحصن عنده خوفاً من بطش الأمويين ، ويبدو أن المختار في هذا الحين  كان يمهد مع من حوله من الموالي والشيعة للانقلاب والقيام بالثورة ، أثناء حكم معاوية ، لكن الأمويين كانوا في منتهى اليقظة والحرص على دولتهم الجديدة ، فلم يتيحوا فرصة لأحد في التملص من سلطانهم ، أما بعد موت معاوية وتولية ابنه يزيد ، ورفض " الحسين بن علىِّ " و " عبد الله بن الزبير " إعلان البيعة له ، قامت المعارك بين اتباع الحسين من الشيعة بقيادة " مسلم بن عقيل " ووالي يزيد بن معاوية على الكوفة " عبيد الله ابن زياد " ، وطالب " مسلم " البيعة للحسين ، فانتهز المختار الفرصة وبايع وساند الشيعة ولكنه لم يشترك في القتال خوفا من " ابن زياد " وسطوته ، ولما انتهى القتال بالفعل لصالح الأمويين ، استقدمه " ابن زياد " متهماً إياه بالخروج ، فلما نفا الاشتراك في القتال وشهد معه الشهود على صدق روايته ، ضربه " ابن زياد " بعود من حديد في وجهه فذهب بعينه ، وسجنه أثناء الفترة التي تم فيها قتل الحسين عام 61 هجرية .
http://www.youtube.com/watch?v=1x9JNTMA9u8
وخرج المختار من السجن بشفاعة من " عبد الله بن عمر " ، متنقلا بين الحجاز والطائف ، واشترك في القتال بجانب ابن الزبير ضد أهل الشام الموالين للأمويين إلى أن رحلوا بعد وفاة يزيد بن معاوية ، وأبلى بلاءاً حسناً إلى أن استتب الأمر للزبيريين في الحجاز ، ولكنه لم يجد المكافأة التي كان ينتظرها من ابن الزبير في اشراكه في أمور الحكم ، فاختار العودة للكوفة متعللاً بأن وجوده هناك أنفع لابن الزبير ليدعوا له ، واجتمع سراً بمحمد بن الحنفية واستأذنه الرحيل عن الحجاز ، ولم وصل تقرب من أشراف الكوفة خاصة الهمدانيين منهم لقربهم و ولائهم للطالبيين و كرههم للأمويين ، اللذين مروا بعام من أصعب أعوام  دولتهم هو 64 و65 هجرية ، حيث توالى على الخلافة ثلاثة منهم في نفس العام هم معاوية بن يزيد ، مروان بن الحكم و عبد الملك بن مروان الذي استتبت له الخلافة ، بعد مقتل سليمان بن صرد زعيم التوابين على يد عبيد الله بن زياد في معركة عين الوردة ، وهنا انتهز المختار الفرصة ودعا لمحمد بن الحنفية بالإمامة وأطلق عليه لقب المهدي ، وخرج على الفريقين سواء الأمويين أو الزبيريين داعيأً للثأر للقتلى من آل البيت ، وانضم إليه الأنصار من كل صوب استعداداً للقتال في جانبه ، وكان من بينهم " إبراهيم بن الأشتر " أحد القادة المقاتلين المحنكين في هذه الفترة ، فحاصر والي عبد الله بن الزبير في قصره حتى أرغمه على الخروج من الكوفة ، وأرسل لابن الزبير مخادعا أنه ما زال في طاعته ، ثم تحول إلى قتلة الحسين وأباد منهم من استطاع ، وأرسل ابن الأشتر إلى عبيد الله ابن زياد إلى المدائن ، فقضى على ابن زياد وجيشه ، وأرسل رأسه للمختار ، ولكن ما يثير الاهتمام هنا هو عدم وضوح آراء محمد بن الحنفية فيما كان دائر من صراع ، فهو لم يطالب بالخلافة لنفسه وكذلك لم يبايع ابن الزبير ولا حتى أحد أفراد بني هاشم ، إذا وضعنا في اعتبارنا أنه كان متفهماً لمآرب المختار ، أو على الأقل كان متشككاً فيها فكان عليه أن ينفي صلته به ، فما كان من ابن الزبير إلا أن يضع الهاشميين في سجن " عارم " القريب من بئر زمزم ، متوعداً إياهم القتل والحرق إذا لم يتموا له البيعة ، مما قلل من شعبيته بين عوام المسلمين، وهنا أرسل بن الحنفية رسله إلى الكوفة  يستنهض أهلها على الوقوف بجانبه ويطلعهم على حاله ، ويسألهم ألا يخذلوه كما فعلوا مع أخيه الحسين من قبل ، فلم يجد المختار فرصة أجود من تلك ، وأرسل " أبا عبد الله الجدلي " – المعروف بحبه لآل البيت وعلاقته الجيدة بهم ـ  إلى الحجاز على رأس جيش لفك الحصار في مكة ، فلما وصلها كانت جيوش ابن الزبير خارج الحجاز ، فاستطاع بسهولة فك الحصار والوصول لابن الحنفية ، الذي منعه من القتال في الحرم ففوت على المختار القضاء على ابن الزبير ، في فترة انشغل الأميون في تسيير أمور الشام السياسية تاركين العراق والجزيرة مرتعاً للثائرين ابن الزبير والمختار ، أو ربما كان هذا مقصوداً كي يقضي أحدهما على الآخر أو تضعف قوة كليهما ، فرأى ابن الزبير تولية ابن أخيه مصعب بن الزبير أمر البصرة  ، التي هرب لها الكثير من أهل الكوفة بعيدين عن المختار وبطشه ، وقاموا بتحريض مصعب على قتاله ، فدارت معركة طاحنة بينه وبين جيش المختار الذي قاده " أحمد بن شميط " ، في غياب الأشتر الذي ساءت العلاقة بينه وبين المختار ، وكان جيش الكوفة يتكون من العرب والموالي ، وفي هذه الأيام كان التوتر بينهم هو الغالب لازدياد النعرة القبلية عند العرب ، فاختلط النصح بالوشاية والولاء بالهوى ، فاستطاع مصعب القضاء عليهم حتى أنه لم يترك أسرى ، ولما بلغ المختار الخبر أعد جيشاً  جديداً ، وسار هو بنفسه للقتال ، والتقى الفريقان في " أرش كسكر " ودارت معركة ثانية هزم فيها المختار ، ليفر إلى الكوفة ويتحصن بقصره ، ويحاصره مصعب أربعين يوماً ، يخرج أثناءهم المختار عدة مرات للقتال الشديد في شوارع الكوفة ، إلى أن مل أصحابه ، فيخرج للمرة الأخيرة للقتال في تسعة عشر رجلاً حتى يقتل ، فيأمر مصعب ابن الزبير بقطع كفه وتسميره جوار المسجد .
http://www.youtube.com/watch?v=UZkV---CfBY
ها هي القصة بشكل موجز كما تواترت على ألسنة الرواة ، لكن الدكتور " ابو النصر الخالدي " لم يكتفي بذلك ، وإنما قام بتحليل جميع الجوانب السياسية والإجتماعية والعقائدية التي مرت بالدولة الإسلامية وأصُّل لها بشكل علمي  ،وأوضح مدى تأثرها  باتساع رقعة الدولة ودخول العديد من الأجناس في حظيرة الدين وظهور الخلافات والتعرات القومية التي أسهمت أحيانا في فت عضد الدولة ، وأسهمت أحياناً أخرى إثراء الجانب الثقافي لها ، كما قام الكاتب بتحليل آراء الرواة للأحداث ومناقشتها ورد بعضها ،فمن ينتمي إلى الشيعة يروي الرواية من وجهة نظره ، ومن ينتمي للسنة يرويها كما يرى ، وهناك من خالف الطرفين و رواها بشكل موضوعي غير متحيز، ويرجع ذلك  لقصر الفترة التاريخية التي مرت داخلها خطوب كثيرة و عظيمة ارتبطت بما قبلها من وقائع الفتنة الكبرى التي يمتد تأثيرها علينا إلى اليوم .  
    

ثلاثية البحر



(1)
غادر الهلال بداية الشهر منذ ساعات، وبدأ السقوط في البحر المحدود بنهاية السماء. كنا قد أبحرنا لوقت قصير في وجه الريح    ، الشراع ممزق والدفة بالكاد تتشبث بالمركب العجوز ، البحار صغير السن يظهر كل مهاراته في السيطرة عليها ، رغم أن الموج كان محايدا موضوعيا لحد كبير ، باب القمرة مهشم لكنه مغلق يتسرب منه ضوء خافت ينعكس علي الألواح التي غمرتها المياه ، تتصارع الأنفاس لتقطع الصمت ، تتخفي النظارات من وراء جفون موارَبة  لتستقر علي فراغ الزجاجات وأواني الحساء التي تهشم بعضها بفعل الضجر ، أقلع البحارة عن كل شيء ، حتى أن احدهم القي بغليونه في الماء ، لم تبق سيدة واحدة علي السطح ، ولم يجرؤ أشجع الرجال علي البحث في باطن السفينة  عن امرأته ، خوفا من فقدان الأمل أو خشية إلقاء الآنية المعدنية في وجهه ، ازدادت علامات الشهور والأيام علي عامود الصاري حتى أنها احتاجت حفنة من المترجمين لكثرة اللغات وأدوات الطعام التي كتبت بها ، عندما انتشلوا المركب بعد كذا وتسعين عام .
 
(2)
 
الناجون من غرق السفينة وقفوا متكاتفين على حافة القارب في انتظار قدوم الشاطيء ، النظرات ثابتة على خط التقاء السماء بالبحر ،عل شيء يغير من استقامته ، الوجوه تراصت متشابهة تفكر في النجاة ؛ العيون، الأنوف و الجباه تتفصد عرقا، شريط سينيمائى متكرر ، ساعات والموج يهدهد القارب كزوجة أبيه ، حتى كل الموج فبدأ يقذفه بعيدا ويعود ليقذفه بأقصى طاقة غضب داخلي ، وهم مصممون على  التكاتف بنفس الطريقة ،لم ينسل واحد عن المجموع .كأنهم في انتظار زميلهم الذي ذهب لتنفيذ ضربة الترجيح الأخيرة.يقاومون إلتواءات البحر والقارب ،بجلوس القرفصاء والوقوف معا . فجأة قطع. الخط المستقيم نقطة رمادية بعيدة تحرث المياه تجاههم ، وتغير الشريط السينيمائى إلى صور مستقلة ، وهم مازالوا يقاومون البحر معا، وظلت السفينة تتقدم نحوهم بنفس السرعة،وبحارتها متراصون يشاهدونهم في بهجة حتى أن القبطان أطلق نفيره  عدة مرات مما شجع بحارته على التصفيق والصفير بإيقاع منتظم  ظنا منهم أن أبناء القارب يرقصون الدبكة أو ما تشابه عليهم من الرقص الروسي .
 
(3)
 
النافذة تقابل البحر تماما لا يفصلها عنه إلا بناية عالية تشطر المنظر إلى نصفين. وكأن البحر وضع كفه على إحدى عينيه ، النوافذ المقابلة كثيرة تتخلل عُقَّل أصابع البناية ، وتحمل التأويلات والأقاويل معلقة بين الملابس على حبالها ، بزة عسكرية بالطبع جردت منها الرتب ، وراءها وجهين اختفى فكهما السفليين تحت حافة النافذة.  احدهم بشارب أبيض وعيون متسائلة والآخر لامرأة ذات تجاعيد لم تنحتها السنين ، ولكن نحتها تغيير فصول السلطة ، نافذة  تضاء على  حبال فارغة  وضجيج مشتعل وصوان فارغ ، وجميلة تقطع الغرفة ذهابً ما بين الشرفة والصوان . موزعة نظراتها على ما تبقى من ألوان الشارع المظلم ، باحثة  في أركانه عما  يهديء من شبقها  لمدة  ليلة . ردنجوت ، فراك ، حلة لويس السادس عشر أو السابع عشر، ورأس ودعه الشعر أعلى مؤخرة الكرسي يقابلون مرآة تعج بأدوات الماكياج والباروك ، ووجه  ذو  دموع على جوانبه  الخارجية من تأثير الجلسرين ، مائدة ذاب خضارها من كثرة تلامس أيادي العرق وأوراق اللعب من  ملوك  وآسات  وضربات حظ  وإفلاسات وإغداقات ، وحولها بقايا لأثاث محترق وأسمطة اختلطت ألوانها من إثر اندفاع وسقوط عابريها ، كل هذا  لنافذة  تكحلت  حوافها  بمراود  النيران ، زجاجة خمر تتجاوز نسبة الكحول فيها نسبة المكترثين بتيار الوعي ، يقبض عليها فتى يخرج من باب في الطابق الأرضي على حديقة تطل على البحر، نبتت الأواني البلاستيكية فوق عشبها المبعثر ، البراميل وما شابه. بدا في إحكام غلقها وشد وثاقها بحبل غليظ ، وهو يجرع من فم الزجاجة جرعات كبيرة جعلت البراميل تميد في نظره حتى كونت كتلة ضخمة من البلاستيك، نظر إليها ثم عاد للخلف ينظر لها من زاوية ثانية وزاوية أخيرة ، دخل إلى الباب مركزا نظره على الحائط الذي علق عليه صورة لامرأة ريفية تتأبط بحارا صغيراً ، كان يوما يتشبث بالدفة يريد إنقاذ مركب من الغرق ، دفع الطوف البلاستيكي في الماء وألقى بعلبة سجائره وصار يرقص الدبكة على إيقاع قديم ، حتى اختفى في ظلمة البحر ، ولم ينتظر أن يقطع خط التقاء البحر المحدود ببداية السماء .
 
 
 

"لحن الصباح" أسطورة ومرثية لضمير جمعى ( المقال نشر في جريدة الأزمة الألكترونية )



كما يقول أرباب مهنة الطباعة يحتوى الكتاب على سبعة ملازم بواقع 112 صفحة من القطع الجائر20*14 .يقع بين دفتي الكتاب رواية "لحن الصباح" للكاتب محمد ناجى وترجمة لها إلى اللغة الإسبانية للمترجم رفاييل أورتيجا وصدرت عام 2010 عن دار سنابل للكتاب.
“عباس” الأكتع.........”نوفل الخطاط” ..........الحاجة ويكا ..........فانوس ...........الأمير فرغلي ..........ياقوت القاضي .........المرأة المخبولة – كل هذه الشخصيات وأيضا الأماكن – تسرى وتنساب وتندثر عبر ثلاثة أزمنة بين الماضى والآنى والأسطورى رسمها محمد ناجى فى روايته القصيرة "لحن الصباح" بمهارة شاعرية فائقة .
“عباس” الأكتع
الخباز الذى فقد أطرافه فى الحرب عدا زراع بإصبعٍ واحدة ، وعاد خالي الوفاض إلا من تعويض فقده على مائدة القمار وحلم إلقاء الورقة الرابحة على المائدة يسرى فى دنياه مستقلا عربته اليدوية ذات العجلات الأربع . متنصلاً  من أية جذور عائلية  صانعاً أسطورته الذاتية كأي  خباز ماهر يستطيع عجن الشوارع والأماكن والحكايا بلسانه الذى يعوضه عن أطرافه المبتورة . تنكر لأمه التي ولدته وانتمى لفقس بيضة لغراب غلى شرفة مسجد وهنا يذكرنا الكاتب بالحكاية الأسطورية في العهد القديم بإليا النبي الذي أعالته الغربان عند نهر كريث .يقضى "“عباس”" صبحه محاولا التضييق والإجهاز على غريمه "“نوفل الخطاط”" ( فم الأوزة ) بحركاته البهلوانية الرشيقة ، ويقضي ليله مغيبا بخمرته الرخيصة من عصير القصب  و السبرتو يحلم  بعروسه  العوراء التي وعدته "ويكا" بها أو متحفزا تجاه قبيلة الكلاب التي يعتقد ان " نوفل" متخفيا بينهم ، وأحيانا يعود إلى نفسه ويتجمل أمام مرآته ذلك الطفل الصغير الذي وجده في الطريق وجعل يمشط شعره ويرى نفسه في عيون الطفل الحلم والأمل بعيد عن طلقات الرشاشات والمدافع .
“نوفل الخطاط”
أصابه مرض الرعَّــاش بعدما كان  خطاطا  ذا  يد ثابته و وجه ذا فم صامت يدل على الإنهماك في العمل والمهارة  في الصنعة ، الأن قد أصبح هيكلا فارغا لرجل لا يستطيع أن يصد غارات “عباس” المتوالية ولا حتى بلسانه الذي عقده الضعف ، مما جعل “عباس”  يطلق عليه فم الأوزة . تركته زوجته " جارية " لتتزوج بآخر وتلد منه البنين عوضا عن ولدهما الراحل دون رجعه أو رسالة تدل على وجوده . جلس في الطريق يبيع المسابح الخشبية والبلاستيكية الرخيصة في انتظار التعويض الذي سيرسل له عوضا عن إبنه الذي فقد أخباره . هنا يستطيع أن يشتري مسبحة من كهرمان أصيل تلف يده لتبرئه من مرضه العضال . ونرى مساحة التخييل والأسطورة في شخصية نوفل أفور حظا بعلاقته بـ " فانوس " الحكاء وأيضا بصمته الماسوخوي في إنتظار أن يحبك خية لعباس إثر حركة بهلوانية قاضية تأذن بمحاكمة رسمها " محمد ناجي " ليس في عقل " نوفل " وحده وإنما على جدار الرواية الأسطوري العريض .
الحاجة ويكا
صاحبة محل البقالة الذي يقع نشاط " عباس " و  " نوفل " في كنفه وأيضا صاحبة المذياع المؤذن بـ " لحن الصباح " كبداية لليوم أو الرواية . تبيع البضائع الإستهلاكية الرخيصة والحلم الكاذب لـ " عباس " بالعروس الوهمية ، وتلعب دور حكم الساحة المتواطئ  بتهدئة النفوس بأن تلقي لهم بفضلات طعامها ليستمر الصراع . حيث أعطاها " ناجي " في يديها الميقات بين لحنين صباحيين ، تبدأ بأولهما الرواية خاطفة سريعة الإيقاع  مسترسلة في السرد ، وتنتهي عند أخرهم بمقتل نوفل على يد عباس بتصوير فانتازي لهذه المأساة بجملة " عباس" " .... عملها الكلب " أي نصب لي فخا ومات . ولا أريد أن أترك هنا مساحة أكبر للتأويل فالحاجة ويكا هي الشاهدة على أحداث يوم أو ربما دهر له زمن دائري يبدأ وينتهي من نفس النقطة .
فانوس
جده أول من أجرى قوسا على وتر ، هذا الحكاء الذي ينحدر من سلالة من الحكائين ويلبس حكاياته ثوبا جديدا لكل مستمع ويغير قدها كما غيّر هو وأسلافه أسمائهم تبعا للعصر الذي وجدوا فيه . الأن هو " فانوس " وقد كان "عبد المولى " من سلالة " عبد " وبعد لحظات ربما يطلق على نفسه أسما أخر .
الأمير فرغلي
يظهر مرة على صورة الفارس الأسود على الحصان الأسود على الصخرة السوداء ، على رقبته لبدة الدم وقد أمسك برمحه مستبدا كأنما قبض على النيل – على حد تعبير " محمد ناجي " – وكأنما قبض على شريان الحياة . يظهر مرة أخرى على أنه الولي الشيخ فرغلي أمير المرعوشين ويستمد نوفل قوته الروحية منه – على حسب حكاية فانوس – وتلعب المرأة " جارية " في حكايته دور الخائن الذي يسلمه إلى الثوار من الشعب وتتنكر له عند أفول نجمه كما فعلت " جارية " زوجة " نوفل "
ياقوت القاضي
العدل الأوديبي المطلق ؛ اقتلع عينه أمام الجميع ليطهرها من إشتهاء إمرأة زانية ، وثبت مكانها ياقوتة حمراء منها اكتسب أسمه ؛ الياقوتة التي حاول نوفل الوصول إليها خلال قضبان الضريح ولكنها كانت بعيدة المنال مثل أسرار " ياقوت " التي لا يعرفها سوى العجوز المخبولة تقذف المارة بالحجارة كي يبتعدوا ؛ وكأنها توطد لعقد ديوان جديد من زمن غابر مثل الدواوين التي كان يعقدها ياقوت القاضي وأهمها ديوانه الذي عقد لمحاكمة لص دعيت له المدينة كلها وظل الديوان منعقد كل شهور الصيف وأطلق صراح اللص وكأنه حكم بالذنب على الضمير الجمعي .
أستطاع " محمد ناجي " في سرد لغوي أخاذ أن يمزج الآني بالماضي الآسطوري داخل نصه مما أعطى إيقاعا سريعا متدفقا في روايته القصيرة ، واصفا عالما واقعيا آنيا مشوها بجمل ذات دلالات تحاكي الواقع في احد مستويات التلقي وتحاكي الاسطورة في مستوى أخر للتلقي في نفس الوقت ، مما أعطى الرواية أبعاد كثيرة للتأويل داخل فضائها النصي وجعلها أبهى ما تكون كأسطورة ذاتية ومرثية لضمير جمعي يراه الكاتب بأنه آثم يستحق الحكم عليه بالسجن بين الأماكن التي رصدها في روايته.



الصحراء

قـارب حـلـم الشتــاء عـلـى الـنهاية , ولـم يـأت المـطر. زرعـاتهم الذابـلات ضـجـت سيـقـا نـها عـطشا , والأوراق تحـنطت عـلى الأرض . الصلوات كفـرت بسائلـيها و المفاصل من الركوع. رحل الجميع تاركـين من ورائهم اوجاع اعـوام مـضـت داخل الكـتلة الإسـمنتيـة الصغـيرة التى تقـف على تل كجرح فى جسد المزارع القاحـلة . اصطحبوا معهم ذلك الحفار الدقاق الذى يلائم الأرض ذات الأمل. التى يقـترب جوفها من السطح .والفـجـر, كان مبتغاهـم فى الوصول ,وعـلى أطراف الأرض التى تم انتقاءها بعناية ركنوا كوخهم الصغير على حافة بيارة لتحـتضن بئر الماء. وبعد وقـت.... افـسحـت الشمس مجالاً للعيون لرؤية ثلاثة الوان تشكل المكان. الأصفـر, الأزرق و الأبيض. الرمال ابتلعت لونها فى صمت , السماء لـفظت سحابات سكبت بعضا من لونها لترسم على الأرض حجارة لمدافـن تظهر على بعد النظر وبعض الكلاب البيضاء التى تحرس المكان عـنوة . بعوضة سمح لها الجمل بالإستراحة عـلى ظهره , فـرشقـت ذنبها فى رقـبته . هكذا فعل الحفار بإنبوبته فى الرمال. وكلما اجتازت الأنبوبة مسافة فى رقـبة الرمال , إزداد إعـجاب الواقـفـين المندمجـين فى المشهد , حتى انهم لم ينتبهوا للبدوى الصغير الذى إخترقهم بجلبابه المخطط الذى إرتداه مذ بدأ يدك الارض بقدميه. اتجه ناحية الكوخ فـدخل وخرج وفى يده رغـيف وطفـل حضرى وابتسامة ابيه تودعهما عـند الباب . بينما العمال يستجدون الماء من البئر ,انطلقا سويا الى أعـلى الـتلـة القـريبة بجوار المدافـن ومن الناحية المقابلة شاهدا خيمة شدت أوتادها, مزركشة كأنما قـد جمعت كل وسخ الصحراء وتركتها نظيفة. فإقـتربا منها ودلفا فى وجل, فإذا بعجوز طالت لحيته منذ سنين إنثنت فيهم ركبتاه تحت جسده . جالس على كرسى من حجر يفـيض عـليه ما تبقى من جـلبابه . وسبابته ترسم على الأرض بين المحارات التى امامه دوائر و أقـواس , وعندما إنتبه لوجودهما – بدأ فى إستعراض مهاراته . صانعا فى الهواء بيديه دوائر تخترق بعضها البعض وثقـوبا ودوامات كحائكة عجوز تخـيط مصائر البشر . فألقى له البدوى بالرغـيف ليكحـل به ناظريه بعيدا عـن صديقه الجديد. فإذا بإحدى يديه تخرج من دائرتها غاضبة وتستقـيم ناحية باب الخيمة . فوجدا نفـسيهما بجوار الحفار وملوحة ماء البئر تظهر على الوجوه . وقـد ثارت الريح على الرمال واخـتلطا فى نقاش عـنيف مع قـدوم الوان جديدة عـلى المكان جعلت الكلاب الموجودة تنبح نباحا كئيب , صديريات سوداء للرجال وأحزمة حمراء للنساء على ملابسهم البيضاء , يحملون تابوتا إستعار لون غـطائه مـن الصبار . متجهين بالطبع ناحية المقابر . فـذ هـبوا- ومعهم الوافـدين المفجوعين فى بئرهم - إجلالا للموت . وجدوا العجوز زاحفا فى إنتظارهـم , ينثر قـطرات من ماء أمام الباب الحديدى لإحدى المقابر , وجعل يعبث بيديه فى القـفـل مطمئناً عـلى سلامته. إنتظر الغرباء طويلا حتى رفع الغطاء عن التابوت حيث وجدوه فارغا . واتجهت الأبصار نحو العجوز الذى قرب شفـتيه الحادتين من القـفـل وأوعـز إليه فا نفـك . فـثارت الرمال مرة أخرى لتستر ما أخرجوه من القـبر. وضعوا خبيئـتهم داخل التابوت , ومضى الجميع يحمل كل منهم الوانه . تاركـين للصحراء الوانها.                                                                                                    

الاثنين، 9 مايو 2011

الشاطئ



عـقـص شعره وهذب لحيته بأصابعه وعلق مخلاته على سيخ من حديد حمله على كتفه، وكان قد ملأ المـخلاة بأشيائه التى نوى بيعها لأول من سيصاد ف فى الطريق، مشى محازيا الشاطئ المتعرج متحاشيا التقاء خط  ســيره بحواف المياه، مداعـبا الرمال بخطواته ذات الإيـقـاع المـنتظم، لكن الموج لم يكن الشريك الشريف إذ طغى عـلى آثار أقدامه السالفة، نـظـر كـثيرا للخـلف إلى كوخه الذى حاولت كثبان الرمال جهـدها إخفاءه.. ظل فى طريقه اللامنتهى حيث امتد الشاطئ بلا تعرجات وأبى الموج ألا يطمس آثار أقدامه إلا دفعة واحدة مستعيناً بالمد فى ليلة قمرية قضاها فى العراء دون جرعة ماء عزبة، مستقرا هـو أمام أكواخ الغرباء التى نبتت فى بقعة خضراء غريبة عن المكان، وفى الصباح سرد أشياءه على سماط قديم، لكن الأكواخ لم تأبه لما لديه لمدة يوم وليلة، بدت منهكة لجسدة لـتسلمه للنوم وللشاطئ معا، صندوق خشبى اصطدم برأسه عدة مرات ليوقظه، دون جدوى إلا فى المرة السابعة، الصندوق عظيم الطلة يترنح فوق بقايا الموج فى ليل حالك، يقبع فوقه تمثال مرمرى لأنثى اتخذت وضع الجنين تغط فى غيبوبة، فشد التمثال من زراعه فتأوه، احتضن مقدمة الصندوق وحبى به على الرمال ويداه تتحسسان النقوش التى وشمت عليه، فسقطت الفتاة متدحرجة لا تغطيها سوى قلنسوة من ماء البحر ترصعها ذرات الرمال، فجعل ينظرخائفا إلى البحرعله يرى الشاطئ الذى أتت منه أو السفينة التى لفظتها مع صندوقها الغريب، لكنه لم يجد سوى هضاب بلون الكحل ترتفع وتنخفض لتجن ما وراءها.

ولم ينتبه إلا والفتاة واقفة تجر الصندوق وتختفى ناحية الأكواخ، فلملم سماطه وما تبقى من شجاعة ولحق بها تدخل من باب لملجأ من خشب، وكأنها تعرف عُمّاره حق المعرفة، فتململ ثم تبعها إلى الداخل المظلم، ولم يكن هناك جاذب للضوء من الخارج إلا بياض بشرتها، أخرجت سراجا من الصندوق وفركت خاتمها بمعدنه ليلتقط الفتيل الشرر، وقربته من وجهه لتستأنس به فى غربة المكان ولما اطمأنت علقته على مصراع النافذة لينيرالداخل والخارج ففطن لمأربها واستدار خارجا من الباب وظل مستندا بظهره على الحائط الخارجى والنوم يدفع أكتافه للأسفل ويثنى ركبتيه وأخير استسلم واستمر فى الهبوط حتى توسطت لحيته ركبتيه لكن قميصه لم يستسلم مشتبكا مع الأشواك الناشزة من الجدار الخشبى فبدا أنها علقته على بابها وتركته للصباح.

ولما أفاق وجدها بدأت فى استخراج أحشاء الصندوق التى لم تكن بالكثير رداء من قماش على جسدها وقدر معدنى أسود له غطاء يشبه رأس مارد أفريقى عجوز، طفقت تسوى الأخشاب تحت القدر، وتبث هواء فمها لتوعذ للنيران بالاشتعال، ظل السائل الغريب يصدر قعقعة مخيفة فى غليانه، فرفعت شفتيها إلى المقبض.. الأذن للقدر وضغطت عليه بشبق فانفرج الغطاء عن مرآة فى جوفه تتجمع عليه سحب البخار، وأخرجت من صندوقها فرشاة من شعر وعظم بدأت تخط بها أبجدية جديدة على سطح المرآة، الحروف والعلامات لا حصر لها، أخذت تلقنه المنطوقات المستحيلة البوح، وعندما كان تعجزه اللغة كانت تفرضها بإبهاميها قصرا على شفتيه، وكلما انتهت من صفحة بخارية، أزالتها بطرف من ردائها، علمته تاريخ عام قادم لا يرتكن على عام من قبله، أما ما بعده فليس فى مرآتها شيئا له، ظل مشدوها الى أن تهِرب الضوء من النافذة، فحاول هو الآخر اتباعه من الباب، فاستلمسته للبقاء فى الداخل، ولاحقت الضوء الأخير للشمس بمصراعى النافذة حتى طردته، وأهدته مكافأة الدرس الأول عندما أغراها جسده البرىء، طلب أكثر فأعطته وأغدقت، ولما تهرب من خوفه نهرته وأجبرته على اعتلاء الخوف، فمسه من بعيد ثم تذوقه فلم يستطع الهرب، قبلها فأ صبحت مُقبّـلةٌ من الرأس للقدم، وهنا أهدته كل ما لديها من إمرأة، وجعلت تتغذى بجوع على  كل ما لديه من رجل، فغابت الدنيا أمام عينيه، ولما أفاق أحس ببرودة تجتاح جسده فتكور واهتز فصدم القدر وتململ السائل فى داخله ليسيل على الأرضية الخشبية الجافة ويسرى فى تجاعيدها حتى وصل إلى مخلاته الملقاة على الأرض، فحاول التقاطها فى ترنح ولكن محتوياتها انفرطت دفعة واحدة، واندلق منها مسحوق أخضر اختلط بالسائل فإذا بالأرضية تخضبت بلون أحمر، سَرى فى شرايين تجرى على الأخشاب تشكل حياةً نابضة، فنظر بحزن شديد إليها وهى تلملم بكفيها المعجون وتضعه على شعرها الأسود الفاحم وتغير لون شعرها، والانتصار يدنو من قسمات وجهها وكأنها وجدت نبوءتها الضالة منذ قرون، أما هو فسقط كمدا على ضياع مسحوقه الذى اكتسب منه رزقه واسمه، وأسماء أسلافه من زمن، فتهدج صوته متمتما منشداً وهو يهتز يمينا ويسارا:
فصب قدره فى قدرها
و حال بمائه فى مائها
فارتاحت للذى باعها
فنام حـولا فى ريحـها
فظـل عمره بحـوزهــا

كانت قدماها كحمامتين ما تكادا تستقران حتى تحلقا فوق الفراش ولكن الملجأ قد استقـر لمدة عام، منذ وصولها.

 تعلم خلاله كيف يحكى ما سيحدث فى العام الذى لا يتكئ على عام من قبله، ولكنه لم يتعلم الإيعاذ للنار بالاشتعال، فترك لها هذه المهمة مع مهمة استقبال الزائرين، اللذين طمحوا فى معرفة حكايا الأيام، ولما ازداد عددهم  فطن
إلى أن الجميع يشتركون فى قصة واحدة، والاختلاف يرجع إلى الزاوية التى ينظرون منها إلى المرآة كان حريصا على توسيع رقعة المكان، حتى أصبح لهم نافذة قريبة من الشاطىء، يقفان قبالتها يراقبان الحركة فى السماء.. طيور بنية وزرقاء، نيران تسقط من سمائها إلى عرض البحر، سحب تغير لونها إلى الأرجوانى.. الكل مدون على سطح المرآة، فازداد يقينه بازدياد عدد النبوءات الصادقة عن الأخرى التى لم تطاوعه، وأصبح رأيه أكثر صلابة ونظراته تحمل عمقا لا مثيل له، كما زالت نحافته وطالت لحيته، وكثرت إشاراته وقل حديثه حتى انقطع، إلا غناءً، فصار يترجم النبوءات إشارةً، وفى النهاية ينشد أغنية بصوته الحالم تعبر عن حال الجميع.. فينصرف المستنبئون مشدوهين بعذوبة صوته غير مبالين بما تحمله إشاراته من خفايا الأيام.. ظل أعواما فى هيامه وغنائه معتزلا امرأته حتى زهدته، وأقلعت عن إشعال النار تحت القدر ولكنه ظل قادرا على فك رموز المرآة دون اللجوء إلى الأبخرة المصّاعدة عليها وابتكر طرقا جديدة للرؤيا بقراءة علامات على ظهور النساء، اللائى كن يهبن أنفسهن للرؤيا والمرتأى، لكن الجميع قد بهتوا لما شاهدوا فى الأفق ضوءً قويا شديد التقوس كسنام جمل يسقط فى البحر، ويلامس الماء ويندحى على سطحه ليرسم حجرا أبيض يطفو، ويعاود الضوء الكرة حتى شكل طريقا حجريا شق البحر ليقترب من اليابسة، ساعتها جال سؤال واحد بخاطره.. فى ماذا سيعتقد الجميع؟، بما أنه غير قادر على التنبؤ بشىء، فلم يستطع حتى التنبوء بحدوث جلل مثل هذا الطريق الذى رسخ فى البحر.. ماذا سيقول نساؤه وخاصة امرأته الأولى، التى ارتدت قلنسوتها واخترقت جو الملجأ فى تصميم متجهة إلى الشاطىء، فتتبعها متذللا، خوّضا معا فى البحر- متجهين الى الطريق الجديد- حتى وصل الماء إلى نحرها، فعقد كفيه خلف ظهره لتضع عليهما قدمها وعندما حاولت وضع الأخرى على كتفه بدأ فى النحيب فزلزل بكاؤه البحر وتخلل الهواء الخارج من فمه الماء صانعا فقاعات كبيرة انفجرت كقنابل دفعتها للسقوط فى الماء وهى تبكى، ولكنها عاودت الصعود على كتفه كى ترتقى بداية الطريق الحجرى.. وتراجع للخلف ليراها وهى تمشى على الطريق المنتهى بمركب كبير ذات أشرعة مخملية وصوارٍ من نور، وما إن صعدت حتى دار المركب فى البحر فصرخ مناديا إياها لكنها لم تنتبه، والريح يدفع الأشرعة وكأنما يحملها من الإبط.

عندما أغلق عينيه وفتحهما وجد نفسه جالسا بين أحفاده فوق تبة تطل على صحراء شاسعة مجعدة السطح كوجهه من أثر السنين.. كانت تلك التبة زمنا شاطىء لبحر جف.